نجاة عبد الصمد – الناس نيوز ::
سمرة الحناوي، جوليا الأطرش! نضع الاسمين جنباً إلى جنب، الأول جزءٌ من ذاكرة الأجيال الثلاثة الأخيرة في جبل العرب في سوريا، والثاني مجهول تماماً.
الأول تحمله امرأةٌ هي ملكة الشعر الشعبيّ في السويداء، الذي بالكاد برز اسمُ امرأةٍ في ميدانه، يحفظ القاصي والداني قصيدتها الفريدة في شدّة تأثيرها وقسوتها وإيلامها: “يا كوكب السيّار..”.
يا كوكب السّيّار أسرع لوصّيك شوف لي الحبايب وين بأيّ مكانِ!
قول لسليم الوالدة دوم تطريك من بعدكم عفت الطّرب والأغاني
اذكر زمانٍ كنت أنا فيه ربّيك زندي الوسادة وفرشكم بالأحضانِ
في صغرتك من منبع البيت اسقيك وفي مكبري كاس المذلّه سقاني
ذلّيتني.. ذلّيتني يا دهر لمين بشكيك.. ضربتني يا شين (شائن) أوّل وثاني ..
(القصيدة طويلة وهي موجودة بكاملها على يوتيوب لمن يريد قراءتها أو سماعها)
لم تدخل سمرة الحناوي مدرسةً، ولم تحفظ أوزان الشعر، لكنها تأتي بقصيدة شعبيةٍ يتقاطر شعراء الربابة في خمسينات القرن الماضي على تلحينها وغنائها، لتُبكي الساهرين في كلّ مضافةٍ وكل بيتٍ وكل سامع، وتخترق القلوب وتطوف الآفاق وتُؤنس سرى الحصّادين وتنضمّ إلى حكايات الجدّات وترهّب الأمهات بها البنات من العلم: “شو بدك تطلعي مثل جوليا”؟ ورعب الرجال والنساء من أن تتمثّل بناتهم بجوليا الأطرش.
والثاني: جوليا الأطرش التي لا يعرف أحدٌ في بلد ولادتها كيف سار الجزء الثاني من حياتها، بينما نقرأ خبراً مطوّلاً عنها في يوم وفاتها في أمريكا:
https://www.dignitymemorial.com/obituaries/arlington-heights-il/julia-hussman-11085061
أنقل الخبر هنا عن الإنكليزية بتصرفٍ واختصار:
(((25 ديسمبر/كانون الثاني 2022، وفاة الدكتورة جوليا حسين عن عمر 91 عاماً، طبيبة الأطفال والإنسانية، المؤهلة بأربعة اختصاصات: (طبّ الأسرة، طبّ الأطفال، طبّ الألم، طبّ الشيخوخة ورعاية المحتضرين والطبّ التلطيفي) الأم والجدّة المحبة، حبها اللامحدود وروحها الجميلة وأعمالها التي لا حصر لها في الرعاية والشفاء والكرم تظل حاضرة دائماً. حتى يومها الأخير واصلت ممارسة الطب بحب عميقٍ حفظ شبابها ومنحها حبّ عائلتها وزملائها وأصدقائها.
ولدت جوليا في 15 فبراير/شباط 1931 والداها الأمير فوزي الأطرش والسيدة سمرة حناوي. كانت حياتها رحلة غنيّة، بدأت في جبال جبل الدروز في سوريا، حيث قدّمت الحكومة الفرنسية، منحة دراسة للنابهين من أبناء الدروز، القوم الذين أكبرتْ فرنسا فيهم شجاعتهم وكرمهم وشرفهم وحبهم للحرية. نالت جوليا هذه المنحة التعليمية، فالتحقت بمدرسة سانت فاميل الداخلية في دمشق، ثم درست الطب في جامعة القديس يوسف الفرنسية في بيروت، حيث كانت في صفها خمس طالبات فقط وخمسون طالباً. كانت سعيدة بدراستها، وتقضي ليلها ونهارها في المكتبة، حتى تخرّجت بمرتبة أعلى درجات الشرف وسافرت إلى الولايات المتحدة لتدرس طب الأطفال.
في مسارها الطبي التقت بزوجها المحبوب، الدكتور لوثر حسين، وربّيا معاً ثلاثة أبناء: كارل ومارك وجون. كابدت في حياتها بوفاة ابنها كارل وزوجها وشقيقها الدكتور سليم وباقي إخوتها.
سوف توقظ ذكراها في محبيها فكرة العيش بإيمان وهدف وخدمة الآخرين وإحاطتهم بالحب، فقد تركت فيهم (ما لا يمكن تدميره) كما قالت وفعلت. تاريخ الدفن يوم السبت 7 يناير/كانون الثاني 2023)))
***
وكان خبر النعي قد ابتدأ بمقولة من تأليف جوليا، ويبدو أنها اتخذتها شعاراً لحياتها:
“كلّ شيء يتلاشى إلاّ الروح العصية على التدمير، والأعمال الصالحة التي يتركها المرء وراءه”
وقد استرسل المقال في ذكر مناقب الفقيدة في مسارها المهني: ((جعلت جوليا من الطب مهنة ورسالة روحية في آن واحد، فكرست حياتها لشفاء الأطفال كما باقي المرضى، رعتهم بيقظةٍ ومعرفةٍ شاملةٍ بالطب، ولم تتقاعد قط حتى يوم وفاتها بعد 67 عاماً من الخبرة والعمل الطبي. امتدّ دفؤها ورعايتها خارج حدود عيادتها والمشافي، حدّ أن العائلات كانت تصل إلى فناء منزلها الأمامي أو عتبة بابها للحصول على المساعدة في العلاج أو تأمين الأدوية وحتى الطعام)).
إذاً فالدكتورة جوليا الأطرش (أو حسين كما تبنّت كنية زوجها) هي أوّل امرأة من جبل العرب تدرس الطبّ، حيث التحقت بأخيها سليم الذي سبقها إليه، ثم التحقت به في أواخر الخمسينيات إلى الولايات المتحدة حيث تابع اختصاصه في جراحة العظام (ونال فيما بعد شهرة ومكانة علمية عالية حتى وفاته عن عمر 81 عاماً) كذلك تابعت جوليا تخصصها في طبّ الأطفال وتزوجت من زميل لها في أمريكا.
وإذا صحّت المعلومات كيف وصل خبر زواج جوليا إلى أهلها، فيقال أنّ الصحف العربية في أمريكا نشرت الخبر، ومنها سرى إلى الصحف السورية التي أعادت نشره، وعلم به الأمير فوزي والد جوليا، فسارع إلى شراء جميع الجرائد من بائعها في جبل العرب، كي لا يقرأها الناس وينفضح الأمر. لكن البائع اشتمّ رائحة ربحٍ كبير فعاد إلى دمشق، واشترى جميع الجرائد التي نشرت الخبر، فذاع حتى وصل إلى والدتها الشاعرة سمرة الحناوي، وفاضت قريحتها الجريحة عميقاً بقصيدة: “يا كوكب السيار..”
اللافت أن قصيدة سمرة الحناوي هذه لم تولد بسبب زواج سليم من قبل أخته بامرأةٍ (أجنبية)، بينما فاض غضب الأم يوم زواج ابنتها حدّ أنها تمنت الموت لسليم (أسأل الباري بجازتك ما يهنيك وتبقى قرين السمر درج الأكفان..) لاعتقادها أنه كان السبب أو المبارِك لزواج أخته من خارج الطائفة.
وفي هذه القصيدة التي سببها زواج ابنتها جوليا، لم يرد اسم الابنة فيها إلاّ مرة واحدة: (لو تنطفي يا نار قلبي لطفّيك نهر جرى يا جوليا وما طفاني..) بينما ورد اسم سليم كثيراً وبحرقة وعتبٍ وغضبٍ أشدّ (اذكر يا سليم شو كنت أوصّيك بحياة أبوكم لا تضيّع الأمانة.. لو تنشري يا كحل عيني لأشريك.. سليم تاجر بالدّوا ولا عطاني..)
وكأن غضبها على ابنتها كان من الهول إلى الحدّ الذي حملها على أن تمحوَ وجود ابنتها من ذاكرتها، كـأنّ هذه البنت لم تكن. ليس غريباً عن أحدٍ أن أمهاتنا كنّ يفضلن الصبيان على البنات، وهنا لا يختلف الأمر عند الشاعرة، فمهما فعل الابن الذّكر، لن يموت رجاؤها فيه أو أملها من أن يعود إلى رشده ويتوب (كأن يطلّق امرأته مثلاً وينتهي الأمر) (ارجع لرشدك إن كان ربك بيهديك من تاب عند الله يلقى المكاني..) بينما لا شيء يمكن أن يمحو فعلة البنت، بل إنها تستحق أقصى العقاب الإنسانيّ، أن تُمحى من الذاكرة ومن حقّ الوجود. أما (أنا) الشاعرة فقد حضرت في جميع الأبيات تقريباً وأكثر بكثير من اسمي ولديها (المارقَين) مجتمعَين، كانت تبكي نفسها، انهيار شرفها وشماتة محيطها و..!
هنا يخطر لي سؤالٌ ساذج أعرف جوابه، إنما أطرحه فقط للتفكّر: ما دام الزواج من خارج الطائفة محرّماً في أعرافها على الذكور والإناث، لماذا تعامل هذا المجتمع بلينٍ أو بحروبٍ ناعمة (من برّا القلب) مع زواج الشباب من خارجها وبأقصى عنفهِ مع النساء؟
وأفكّر بالشاعرة سمرة كامرأةٍ وكأمّ: كانت ابنة مجتمعٍ وجيلٍ يتغنّى بالبطولات الفدائية، تُلهبه زغاريد المرأة للرجال الذاهبين إلى الحرب للدفاع عن (الأرض والعرض) وتثبّت قلوبهم في المعارك. تزغرد المرأة وهي تدرك أنّ احتمال موت الزوج أو الابن أو الأخ كبير، وكذلك تطعمهم وتداوي الجرحى منهم، وتحفظ بيوتهم في غيابهم، فهل اقتفتْ الشاعرة البطولة بهذا المعنى في هذا المجتمع، بأن عصت قلبها وأغلقت جرحها بقصيدةٍ توافق أعراف وقوانين مجتمعها، فدعت على ولدها بالموت حتى يرفعها هذا المجتمع إلى مقام بطلةٍ فدائية؟
وأفكّر: كم فتك غضب هذه الأم بولديها، وأي هلعٍ أصاب جوليا وسليم حين سمعا القصيدة، وكم مرّة استطاعا سماعها؟ وباسم مَن استعانت جوليا مثلاً في ليالي الأرق؟ أو في شدة آلامها وهي تلد، ومَنْ ساعدها حين قضت لياليها تدرس وتشتغل على نفسها؟ وماذا روت، يا ترى، لأولادها عن جدتهم وأخوالهم؟ وماذا كانت آخر أمنياتها قبل أن تموت؟ و.. و..
لكنّ الفكرة التي تثير غضباً عارماً يفوق شبيهَه الذي فتك بالشاعرة الأم بأضعاف، لماذا لم نسمع بمآثر وإنجازات جوليا هذه المرأة العظيمة إلاّ بعد وفاتها؟
هذه المرأة التي كُتب عنها في المقال إياه: “كانت تتكلم سبع لغات: الفرنسية والإيطالية، والألمانية، والإسبانية، والإنجليزية، والعربية.. واغتنتْ لغتها الفرنسية الجميلة دائماً بالقصة والتاريخ والفلسفة والشعر وحفظت في ذاكرتها عدداً لا يحصى من النصوص الأدبية. وقد نضح أسلوب جوليا بالكرامة، ومظهرها بالنعمة، وكلامها بالجمال، وقد تمسكت بالتواضع والنبل الأنيق كطبعٍ أصيل، وطورت فكرها وتعليمها وقراءتها ودراستها باستمرار، وآمنت أنّ الالتزام والتفاني والانضباط والتصميم ينجزان للمرء كلّ هدف، وبالذات للمرأة. وبهذا جسدت جوليا حياة المحبة المستمرة لله والأطفال والأسرة والإنسانية، وبمواهبها الحية تركت أثراً طيبا في كلّ من التقاها”.
ماذا لو أنّ هذه المرأة الرائدة التي درست الطبّ في الخمسينات، أي قبل جيلٍ وأكثر من أولى خريجات التعليم العالي بعدها، ماذا لو كانت آمنةً في العودة الاختيارية إلى بلدها كمقيمة أو حتى زائرة، كطبيبةٍ أو محاضِرةٍ أو صاحبة مشروعٍ تعليمي أو فكريّ تنويريّ، أو حتى محسنة بتبرعاتٍ خيرية، أما كانت ستحدث فرقاً في عائلتها ومجتمعها؟
رحم الله جوليا ورحمنا جميعا، نحن الأحياء الذين نقرأ عنها الآن..