د . ممدوح حمادة – الناس نيوز :
عندما جيء به من القرية لينضم إلى الفريق الذي يقوم بكل المهام في مكتب الحزب، بدءاً من الحراسة وانتهاء بتنظيف المراحيض، مروراً بصنع الشاي والقهوة للرفاق في القيادة وضيوفهم من مختلف حركات التحرر، وغير ذلك من المهام التي لا يمكن حصرها، احتار أبو فراس في إدراك طبيعة مهنته بالضبط، وبماذا يجيب إن سئل عن ذلك، وقد أنقذه من حيرته الرفيق أبو سعيد عضو اللجنة المركزية الذي قال له إن الرفيق لينين كان يطلق على أمثاله صفة “الثوريين المحترفين”، وهي صفة تشمل جميع الرفاق المتفرغين للعمل الحزبي والذين يحصلون لقاء عملهم الثوري على راتب يسدون به حاجاتهم وحاجات أسرهم المعيشية، بدءاً من الأمين العام وانتهاء بأصغر حارس في مكتب الحزب، وهكذا فإن أبا فراس منذ ذلك الحين يعرف عن نفسه حين الحديث عن مهنته بأنه “ثوري محترف”، ولمن لا يفهم يكرر مفسراً ما قاله الرفيق أبو سعيد نقلا عن لسان الرفيق لينين، يستثنى من ذلك بطبيعة الحال أفرع المخابرات التي كان يقول فيها إنه موظف حيادي في جريدة الحزب، حين يسأل عن العمل الذي يمارسه، فهو بعد خدمة استمرت سنوات في طاقم الحراسة والخدمات أصبح سائقا لإحدى سيارات الحزب ثم بعد ذلك ارتقى درجة أخيرة وأصبح يستلم رسائل الرفاق الموجهة للجريدة من مختلف المحافظات، فيجيب على الأسئلة التي يعرفها ضمن زاوية بريد القراء التي كان يطلع عليها الرفاق بطبيعة الحال، ويحيل باقي الرسائل كل رسالة إلى الجهة صاحبة الاختصاص، فرسائل النقابيين للرفيق أبي بكري، والرسائل ذات الطابع الاقتصادي للرفيق أبي جلال، وهكذا دواليك، الشيء الوحيد الذي تغير في شخصية أبي فراس منذ أن أصبح ثوريا مكتبياً محترفاً هو أنه فقد رومانسيته الثورية، التي كان يتمتع بها سابقاً أثناء تجوله أمام مكتب الحزب، مخفياً تحت سترته مسدساً على أهبة الاستعداد لصد أي اعتداء على المكتب الذي أطلق عليه الرفيق الأمين العام صفة “شرف الحزب”، فقد أصبح يرتدي بدلاً من بنطال الجينز الأزرق والحذاء الذي لا يميزه عن البسطار العسكري إلا لونه البني، أصبح يرتدي طقم سفاري مكون من بنطال رمادي اللون وسترة بكمين قصيرين هي الأخرى رمادية اللون، وبدلاً من الحذاء البني أخذ يرتدي حذاءً أسوداً، ويمكن القول إنه أصبح موظفاً بكل معنى الكلمة، الشيء الوحيد الذي بقي يربطه بماضيه الثوري الرومانسي هي قصصه التي كان يرويها للرفاق الشباب من “الثوريين المحترفين”، عن المهام التي كان يكلف بها من قيادة الحزب في نقل المطبوعات والرسائل إلى المحافظات، وكيف أكل ذات مرة رسالة موجهة من الرفيق الأمين العام إلى الرفيق سكرتير منظمة عفرين عندما ألقت المخابرات القبض عليه عند حاجز في مدخل حلب بسبب المطبوعات التي كان يحملها في كرتونة تحت كرسيه في الباص، وكيف أن الرسالة علقت في زلعومه وكاد يختنق لو أن أحدهم لم يناوله زجاجة ببسي كان قد شرب نصفها، وأكثر قصة كان يتأثر بها أثناء روايتها هي حين حاصر ثلاثمئة عنصر من الشرطة مكتب الحزب عندما أطلق الرفيق أبو أمين النار محتفياً بعرس كان يمر موكبه على الشارع، وكيف تموضع الرفاق على مختلف النقاط وخرطشوا بواريدهم وأجبروا دورية الشرطة على إطلاق الرفيق أبو أمين، فقامت الدورية بطلب المساندة التي جاءت و كان قوامها ثلاثمئة شرطي، ويطنب في الحديث الذي كانت تدخل عليه تفاصيل جديدة في كل مرة وتخرج منه تفاصيل أخرى، وبطبيعة الحال فإن أبا فراس ككل قصاص يروي أحياناً قصصاً مختلقة لم تحدث قط، وخاصة من تلك التي حدثت في زمان ليس منه في المكتب اليوم شهود، ويمكن هنا التنويه بشكل خاص إلى القصص التي تتحدث عن حواراته مع الرفيق الأمين العام الذي لم يكن يبخل بنصائحه على أبي فراس أبداً، أما الرفاق الشباب حديثي العهد في الحرفة الثورية فقد كان معظمهم يصدق كل ما يقوله أبو فراس، ما عدا بعض التفاصيل التي كان خبثاء بينهم يشككون في إمكانية حدوثها ولكنهم يفعلون ذلك بصوت منخفض.
يمكن القول إن أبا فراس الذي جاء قبل أكثر من عشرين عاماً إلى المكتب، لم يعد هو نفسه أبو فراس الذي نراه في هذه اللحظة فقد تغير كثيراً، لم تعد جيوبه مثلا محشوة ببذور البطيخ وعباد الشمس التي لا يتوقف عن أكل ألبابها وتفل قشورها، بغض النظر عن المكان الذي هو موجود فيه، وعندما ينفث الدخان من سيجارته أخذ يدير وجهه جانبا، كما أنه أصبح ينفض الرماد ويطفئ العقب في المنفضة ولم يعد يفعل ذلك على الأرض، ولكن بعض عاداته بقيت كما هي، وبالتحديد ساعة اليد التي لم يكن يطيق حملها، حتى الساعة التي أهداه إياها الرفيق أبو محمد عضو المكتب السياسي بعد عودته من موسكو، والتي رسم على مينائها الأبيض صورة تجمع لينين وماركس وإنجلز، لم يستطع حملها في يده أكثر من ساعتين تخلص منها بعدهما كما تتخلص طبقة الفلاحين من نير الإقطاع البغيض، ولكن في نفس الوقت وكأي موظف فقد كان دائما في حالة شوق لانتهاء الدوام، أولا لأنه أخذ يشعر بالملل، وثانياً لكي يلحق الباص إلى القرية، وبسبب ذلك فقد كان كل ربع ساعة يتململ في مكانه ثم ينفث من صدره هواء ثقيلاً، ويخرج من مكتبه إلى الصالون حيث يجلس إلى طاولة خلف الباب الرفيق أبو جورج، الذي لا يزال في الطور الأول في مهنة المحترف الثوري، فيسأله:
– قديش صارت هالساعة معك بو جريج؟
فيجيبه أبو جورج ولا تخلو حركته من تذمر لا يلاحظه أبو فراس لكونه لا يعاني من حساسية مفرطة، وبعد ربع ساعة يعود ليسأله من جديد:
– قديش صارت هالساعة معك بو جريج؟
فيذكره أبو جورج:
– من ربع ساعة سألت.. شو قصتك أنت والساعة أبو فراس؟
– توق للمستقبل يا رفيق.
يجيب أبو فراس مداعبا فيقترح عليه أبو جورج:
– طالما عندك كل هذا التوق للمستقبل اشتريلك ساعة وحطها بإيدك.
– ليس من باب البخل بو جريج.. أنا عندي ساعة تساوي ثقلها ذهباً.. أهداني إياها الرفيق الأمين العام.. لكن يا أخي ما العمل.. لا أحب القيود في معصمي..
(أبو فراس لم يذكر يوما أن الرفيق أبو محمد هو الذي أهداه الساعة، كان يقول دائما إنها من الرفيق الأمين العام)
ذات يوم وبينما كان أبو جورج منهمكا بقراءة قصة “كيف سقينا الفولاذ”، اخترق صوت أبي فراس الحاد أذنيه كنصل:
– قديش صارت هالساعة معك بو جريج؟
رفع أبو جورج رأسه ونظر إلى أبي فراس وكاد يقول له (عليك وعلى الساعة)، ولكن احترامه لنضال أبي فراس جعله يصمت ويشير إلى الهاتف ويقول:
– اتصل بالساعة الناطقة يبلغونك بالوقت بأدق تفاصيله.
مط أبو فراس شفتيه وشقل حاجبيه وهز رأسه وملامحه توحي بانه يفكر في أمر ما وسأل:
– ليش فيه هيك شي؟
– طبعاً.
رد أبو جورج وتناول الهاتف ثم مد لأبي فراس السماعة وطلب منه أن يدير القرص برقم الساعة الناطقة، ولم يكد القرص يستقر في مكانه حتى بدأت الساعة الناطقة بالكلام بصوت نسائي صاف:
– عند الإشارة تكون الساعة العاشرة وخمس وعشرون دقيقة وثلاثون ثانية.
– شكرا لك.
رد أبو فراس ولكن الساعة استمرت بالحديث معلنة عن الزمن التالي فكرر أبو فراس:
– شكرا يا أختي شكراً..
وتتابعت العملية، المرأة تعلن عن الوقت وأبو فراس يشكر ويزداد عصبية:
– شكرا يا أختي شكراً.. شكرا يا عيني شكراً.. ممنون فضلك أنا شكراً.. ولك يا أختي والله معنا بكالوريا ومنفهم من أول مرة.. والله منسمع لسنا طرشانا.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. قلنا شكراً..
إلى أن طبش السماعة أخير في وجهها وصاح موضحا لأبي جورج:
– العمى.. ما بتفهم.. أكيد زوجة شي مسؤول عينوها في المقسم تنفيعة..
ثم أشعل سيجارة وأردف وهو ينفث أول نفس منها:
– أيمتا بدنا نخلص من المحسوبيات يا أخي؟
بعد أن هدأ أبو فراس قليلا شرح له أبو جورج أن المرأة لا تسمعه وان الرد اوتماتيكي طالما السماعة مرفوعة ستبقى تتحدث، صفن أبو فراس وشعر قليلا بالخجل لجهله بهذه التفاصيل، وفي نفس ذلك المساء كان يتحدث لأهل أم الطنافس عن آخر ما توصل إليه العلم، ألا وهو المرأة الأوتوماتيكية التي يضعونها في المقسم للرد على اتصالات المستفسرين عن الساعة، الأمر الذي استنكره الرفيق ملحم أحد قدامى المناضلين واعتبره خطوة تروجها الإمبريالية للاستغناء عن الطبقة العاملة برجال آليين، لا يأكلون ولا يشربون ولا يطالبون بحقوقهم.
ويصمت ملحم وقد ارتاحت نفسه لأنه كشف سر الإمبرايالية وفضحه أمام الناس ثم يتابع ليختم الفكرة.
– وإذا فتحت فمها يسحبون لها الفيش من الكهرباء أو ينزعون من ظهرها البطاريات.