ثمة بعض الموضوعات التي تتحداك حين تفكر بالكتابة عنها، كأنها تقول لك: “لنرَ من أين ستبدأ وأين ستنتهي”؟ هذا ما أشعر به وأنا أهمّ بالكتابة عن المرأة، فكيف ستكتب عن نصف البشرية في عدة مئات من الكلمات، عنهنّ وأنت قابع في مرابع النصف الآخر، في هذا الشرق المتعثر بتنميته وثقافته، لكنها تبقى محاولة على أي حال!
العقبة الأولى هي أنه ليس بوسعنا، كذكور أو كرجال، التملص من كوننا في صفّ الظالمين للمرأة، فحتى لو انتفى الظلم الشخصي المباشر، فإننا نبقى شركاء متضامنين في الظلم العام، طالما أننا من النصف المهيمن، الذي يمتلك الحق التاريخي أو بقاياه على الأقل، حين كرّس تقاسم العمل بين الجنسين هذه الهيمنة، وأعطتها الأديان، أو الأديان الموازية (حسب تعبير الصديق أحمد الرمح)، صفة الديمومة المشوبة ببعض القداسة.
والعقبة الثانية هي أن المرأة الحالية ليست تلك المرأة التي يجب أن تكون، وهي نسخة مشوهة في مرآة ذكورية لا تعكس طبيعتها بدقة، وإن قيامها بدورها خاضع لضرورة التكيف مع الدور الذكوري والعمل من خلاله وتحت سقفه، لأنه مبثوث في ثنايا المجتمع، ويُعاد إنتاجه على مستوى السلطة بكثافة. ينطبق ذلك على المجتمعات ما قبل الدولة بصورة خاصة، حيث يتم تقدير المهن الذكورية بغض النظر عن فائدتها للمجتمع، وفي هذا الصدد، تقول عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية، مارغريت ميد، بأن الحضارة الذكورية تقيّم عالياً كل ما يقوم به الذكور، حتى ولو كان صيد الذباب!
تضع هاتان العقبتان حدوداً موضوعية على الكتابة حول المرأة، فثمة رأيان (استجابتان) يتنازعان كل رأي يتم تقديمه والتعبير عنه عند المتلقي/المتلقية، وإن هذا الكم من إشكالات الكتابة لا مثيل له في الكتابة حول أي موضوع آخر. لا يعني ذلك أن مقاربة الدور النسوي وأهميته مستحيلة، إنما ستبقى مشروطة، نسبياً، بجنس الكاتب والمتلقي، حتى يحصل التوازن بين دوري النساء والرجال في الحياة الاجتماعية.
ينطبق هذا التصنيف “التعسفي” بصورة خاصة على المجتمعات التي تفصل بين الدورين المؤنث والمذكر بحدة، وتتناقص أهميته في المجتمعات المحكومة بقوانين تساوي، حقوقياً، بين الرجال والنساء. فالمساواة الحقوقية هي اللحظة التي تفرض وتؤسس لتطور العلاقات بين الجنسين، وتضعها في بداية سكة الحل، وهي التي تفرض على الدور المذكر، طواعيةً أو مكرهاً، بأن يُفسح المجال لنظيره المؤنث بلا منّة. بخلاف ذلك، أي من دون المساواة الحقوقية، تبقى التحولات الثقافية والاجتماعية، ولو كانت تسير في منحى تقليص الفروق بين الجنسين، بطيئة وقابلة للنكوص. كما تضيع جهود الحركات النسوية في محيط معادٍ أو شبه معادٍ، ما قد يدفعها للتمترس في مواجهة الجنس الآخر.
في العلاقة بين الجنسين حالياً، لا يمكن تجاهل أهمية العالم الافتراضي في تعزيز دور النساء، وقد تمكنت المرأة من الالتفاف على الكثير من العوائق التي يضعها المجتمع في وجهها. على العموم، صار لدينا نمطا حياةٍ متكاملان داخل شخصية كل من المرأة والرجل، نمط الحياة العادي المكشوف للمجتمع، ونمط الحياة الافتراضي المتواري وراء النمط العادي، ولكنه الأهم من حيث كمية التواصل المبثوثة فيه، وهو ما يسمح بالتعويض عن المكبوتات التي يفرضها النمط الأول، وبدرجة كبيرة من الأمان.
ومع أن دور وسائل التواصل لا يختلف في الأساس بالنسبة لكلا الجنسين، إلا أنه يتيح فرصةً أكبر للمرأة لتعزيز دورها والتنفيس عن مكبوتاتها، كضرب من التمرين على المساواة بين الجنسين وتوسيع نطاقها في كافة المجالات. من ناحية ثانية، وكلما كان ثمة حواجز اجتماعية صارمة في وجه العلاقات بين الجنسين، كلما ساعدت وسائل التواصل الحديثة في التقريب بينهما، كحل افتراضي ولكنه متداخل مع العالم الواقعي. كما يقلّص العالم الافتراضي الفجوة بين النساء من كافة الأوساط في ما يتعلق بالحصول على المعلومات واستخدامها بصورة أكثر جدوى وفاعلية. وفي كل هذه التطورات، من الضروري أخذ واقع الحياة المعقّد بالاعتبار، وأنه ليس ثمة حدود فاصلة بين الدورين المؤنث والمذكر، وذلك من أجل السماح بظهور، والاستفادة من، كافة الطاقات التي يزخر بها الفرد، الإنسان بحد ذاته، وبغض النظر عن كونه رجلاً أو امرأة.
إن الظلم الذي تفرضه العلاقات الاجتماعية المحافظة على المرأة في المجتمعات الذكورية كبير لدرجة أنه قد ينتهك حقها في الحياة، فضلاً عن هضم حقوقها في موضوع الإرث وغيره، ويتطلب العمل على أكثر من صعيد، بدءاً من نشر الوعي إلى وضع القوانين المنصفة في ميادين الأعمال وتحقيق الفرص. فما زالت بعض التعاليم الدينية، التي أضحت خارج سياقها التاريخي، تمارس دورها في قمع المرأة، كطاعة الزوج والصبر على أذاه لتنال الثواب. فالزوج هنا إحدى الحلقات الرئيسة لتسلط المجتمع الذكوري المسوَّغ دينيّاً، بما في ذلك شرعنة العنف والطلاق التعسفي، ما قد يجعل المرأة ضحيةً لأقرب المقربين، ومن الحياة الزوجية قيداً وعقبة أمام تفتّح شخصيتها الاجتماعية.
ونشير في خاتمة هذه العجالة إلى أن تحرر المرأة يرتبط بالتحولات السياسية الديمقراطية في مجتمع ما، ولو أن هذا التحرر لا يسير على نحوٍ خطيٍّ دوماً، ويحتاج لتشريعات عصرية تسرّع عملية التخلص من المظالم المتراكمة، وإلى جهود كبيرة من قبل منظمات المجتمع المدني من أجل إبراز الدور الخلاق للنساء في أنسنة المجتمع ونشر السلام في ربوعه.
منير شحود