ريما بالي – الناس نيوز ::
بعد العشاء، أتمدد مسترخية في كرسيي المعتاد المريح أمام التلفزيون، لأتابع مع زوجي مسلسلنا كما تعودنا كل ليلة.
بيمناي، أقبض على مروحتي اليدوية التي تحمل رسم راقصة فلامنكو، ويزين حافتها شريط جميل من الدانتيل، على يساري وعلى مسند الكرسي، يستلقي جاكيت خفيف كحلي. استعمل المروحة والجاكيت بالتناوب كل حوالي ربع ساعة، وكل ربع ساعة، عندما أنزع الجاكيت عني بنزق وأنا أزفر، وأبدأ التلويح بمروحتي بعصبية أمام وجهي ورقبتي، أو عندما أرمي المروحة وأتناول الجاكيت لألبسه ثم ألف ذراعيّ حوله وحول جسدي، يلتفت زوجي إليّ بتعجب ويسألني: هل أنت بخير يا عزيزتي؟ هل أوقف التكييف؟ أزيد من قوة التكييف؟
أنا بخير، أجيبه ، لا تعبث بدرجة حرارة الغرفة، كل ما في الأمر أنني بلغت عامي الثالث والخمسين!
نعم يا عزيزي، نعم أيتها الحياة، أنا، الطفلة الشقية المفكرة الخجولة الباسمة المقدامة المدللة الحالمة، أعلن أنني وبكل طفولتي، قد دخلت رسميًا بما يسمونه: سن اليأس!.
لماذا اليأس؟ بشاعة الأسم دفعتني إلى التأمل، وإلى مطاردة الأسباب التي جعلته يُطلق على هذه المرحلة المهمة من حياة المرأة، وهي مرحلة صعبة، لا أنكر ولكن أيضَا أسأل: أية مرحلة من مراحل الحياة كانت سهلة؟
فيزيولوجيًا، وحسب ويكيبيديا والمراجع الطبية بإختصار : “يحدث الإياس (الأسم العلمي لسن اليأس) لإناث البشر عادة في فترة منتصف العمر ، مما يشير إلى نهاية مرحلة الخصوبة من حياة المرأة تبعًا لانخفاض سريع في إفراز هرمون الإستروجين. وربما يمكن فهم الإياس بصورة أكثر سهولة على أنه عكس عملية بدء الإحاضة أو بداية الدورة الشهرية. وهي فترة تغيّر طبيعي للحياة، وليست حالة مرضية.
اللوحة أدناه ( أرى العيش كنزاً ناقصاً كلّ ليلة ) من شعر طرفة بن العبد بريشة الفنان السوري الكبير منير الشعراني .
ولا يصيب الإياس الذكور، لأن مستوى التوستيرون ينحفض بشكل تدريجي بطيء وليس بشكل متسارع وحاد كما يحدث عند الأنثى، ولا يفقد الذكر الخصوبة، وإنما يعاني من الخمول وزيادة في الوزن فحسب.”
“وإلى جانب التحولات الفيزيولوجية التي تحدث للجسم، قد تعاني المرأة من مجموعة أعراض أخرى تندرج تحت بند الآثار النفسية، ومنها : اضطراب المزاج، إحساس بالتعب، ضعف الذاكرة ومشاكل في التركيز، اكتئاب و/أو قلق، اضطرابات النوم، وسوء نوعية النوم، النوم الخفيف، الأرق.”
بعيدًا عن تعاريف المراجع الطبية، وبالبحث في مراجعنا الوجدانية الأنثوية، أميل إلى الإعتقاد أن هذه المرحلة من حياة المرأة هي مراهقة ثانية، لأن المراهقة هي فترة التحولات والتساؤلات والصراعات، وما هذه الفترة إلا كذلك، استنادًا إلى الأمثلة التالية:
عندما تبدأ الدورة الشهرية بالإضطراب، وتبدأ أمراض جديدة بزيارة الجسم بدون موعد، ثمة ناقوس يقرع في وجدان المرأة، ليجعلها تنتفض من غفوتها وتقوم إلى مرآتها فتطالعها فيها صورة إمراة أخرى، بشرتها ليست ذات البشرة المشدودة المشرقة، ولا جسدها نفسه، شعرها، أضعف وأقل كثافة، يفقد لونه ولمعانه، ويتساقط بغزارة كأوراق شجرة في فصل الخريف.
يبدأ الصراع الأول: إن كان الجمال هو الميزة الأهم في المرأة، هل أكون امرأة حقيقية إن فقدت جمالي؟ ويقود السؤال إلى صراع آخر، بين التمسك بالجمال الطبيعي الذابل، أوالاستعانة بالتجميل بالرغم من تكاليفه وآثاره الجانبية والنتائج الكارثية التي تحصل عليها معظم النساء.
ولحسم هذا الصراع، كثير من النساء يجنحن إلى التطرف في اختيار أحد الطرفين، التطرف في التجميل أو التطرف في إظهار آثار الزمن، وهذا بحد ذاته قد يكون شكلًا من أشكال التحدي عند بعضهن، أو تعبيرًا عن الاستسلام عند بعضهن الآخر.
يقرع الناقوس ثانية، تفكّر المرأة الأم بأنها أنجزت مهمتها، وأنجبت أولادًا صاروا اليوم بالغين، فيبدأ الصراع الثاني: ما الجدوى من إنجابهم؟ أين هم الآن؟ ماذا بقي لي منهم؟ وهل هم فعلًا أشخاصًا ناجحين كما حلمت؟ هل تراني أنجزت المهمة على خير ما يرام؟ هل انتهت مهمتي في الحياة بابتعادهم عني وانتفاء حاجتهم إلي؟ هل يجب أن أبقيهم تحت جناحي وأن أغمرهم من جديد بخدماتي كي احافظ على كياني؟
المرأة التي لم تنجب، تنتبه للمرة الأخيرة (على مستوى العقل الباطن غالبًا)، أنها وللأبد، فقدت الفرصة في أن تعيش الأمومة، لن تترك في هذا العالم قطعة من لحمها ودمها وروحها، ويبدأ الصراع: إذا كانت الأمومة هي الوظيفة الأسمى للأنثى، هل أنا امرأة كاملة فعلاً بالرغم من كوني لم أنجب؟
ربما، بسبب كل تلك التساؤلات اليائسة، جاءت التسمية يائسة وبائسة، ولكن اليأس قد يختفي، عندما نجد الإجابات الواقعية، والحقيقية، والمنعشة.
أولًا: حسب التعربف العلمي المذكور سابقًا، فإن هذا التحول يحصل للمرأة في “منتصف العمر” ما يعني أنه مازال أمامنا نصف عمر آخر لنعيشه، وهو ما يذكر بالمثل الأشهر للتفاؤل: انظر إلى النصف الممتلئ من الكأس.
ثانيًا: توقف خصوبة المرأة لن يعيق إلا المرأة التي لا تفعل في حياتها شيئًا سوى الإنجاب، وفي عصرنا هذا، صارت العائلات تكتفي بعدد محدود من الأطفال، فتمتنع النساء طوعًا عن الإنجاب قبل توقف دورتها الشهرية بوقت طويل غالباً، إذن، الخصوبة الأبدية ظاهرة لا فائدة منها، ومن البديهي أن تتوقف عند سن معين، كأن الطبيعية تقول للمرأة: ارتاحي من الإنجاب، وانصرفي إلى فعل أشياء أخرى.
اللوحة أدناه ( القلب يدرك ما لا يدرك البصر ، للحسن بن علي القاضي ) من أعمال الفنان السوري الكبير منير الشعراني .
ثالثًا وعاشرًا وأخيرًا: عزيزتي المرأة، أنوثتك، وكونك إمرأة حقيقية كاملة، لا يرتبطان أبدًا بدرجة جمالك أو عدد أولادك ، بل بكونك كائن بشري يستطيع أن يفكر وينجز ويستمتع، وصدقيني، الفكر والإنجاز والمتعة، هي أمور تعيشينها في أي سن، بل بالعكس، تعيشينها بعمق أكثر، في هذه السن، التي سماها البعض، سن اليأس!
وللتأكيد، أحببت أن أعرض فيما يلي جزءاً بسيطًا من لائحة تضم أسماء نساء، قمن بإنجازات كبيرة بعد سن الأربعين. اللائحة التي لا يتسع أي مقال لنشرها كاملة، وهي قابلة للزيادة في أيه لحظة:
- ايزابيل ايندي (الليندي)، روائية تشيلية تعد رواياتها من الأكثر مبيعًا في العالم، بدأت مسيرتها الأدبية بالرواية الأشهر “بيت الأرواح” عام 1982 عندما كانت في الأربعين من عمرها.
- قضت لورا أنجالز وايلدر سنواتها الأخيرة في كتابة القصص، ونشرت أول كتبها «البيت الصغير» عن عمر 65 عاماً في عام 1932، وسرعان ما أصبح من الكلاسيكيات للأطفال.
- بدأت آنا ماري روبرتسون موزيز مسيرتها في الرسم عن عمر 78 عاماً. وفي عام 2006، بيعت إحدى لوحاتها مقابل 1.2 مليون دولار.
- المعمارية العراقية زها حديد، وصفت بأنها أقوى مهندسة في العالم، وفي الستين من عمرها (عام 2010) اختيرت كرابع أقوى امرأة في العالم، معظم أعمالها المعمارية الفذة بدأتها بعد بلوغها الخامسة والأربعين، نالت العديد من الجوائز، أهمها جائزة بريتزكر عندما كانت في الرابعة والخمسين، وآخرها الميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة ريبا للفنون الهندسية، حازتها قبل أشهر قليلة من وفاتها التي حصلت نتيجة أزمة قلبية في ميامي من عام 2016 عن عمر ناهز 65 عامًا ،
- إذن، من وسم هذه المرحلة من عمر النساء باليأس، هو شخص أو مجتمع لا يرى في المرأة إلا رحمًا، والرحم على أهمية وظيفته البيولوجية، لا يعدو كونه جهازًا صغيرًا داخل عالم ساحر كبير، لن يتعطل بتعطله.
- أنا اليوم، وبالإستعانة بمروحتي الإسبانية وجاكيتي الكحلي، أحاول أن أوفّق بين صورة الطفلة التي أعرفها عن نفسي والتي أراها عندما أغمض عينيّ، وصورة المرأة الخمسينية التي تطالعني في مرآتي. وأستمع بنشوة إلى كاظم الساهر.. لا أصدقه تمامًا حين يغني: “كل ما تكبر تحلى”.. لكنني أصدقه حتمًا حين يقول: “أنت امرأة لا أحسبها بالأيام وبالساعات، أنت أمرأة تبقى امرأة في كل الأوقات”.