سلوى زكزك – الناس نيوز ::
تقول طبيبة العيون السورية (د.ج): في عيادتي الواقعة بحي شعبي مكتظ بعائلات مهجرة ونازحة وبعائلات فقيرة جداً رغم تملكها لمنزلها، أتعرف إلى حالات تتكرر يومياً، تراجع في النظر بسبب سوء التغذية، تراجع في الرؤية بسبب عجز الأهل عن شراء نظارات طبية لأطفالهم المصابين بحالات قصر النظر أو الحول أو الانحراف، وتضيف الطبيبة: إنها أسباب جدية قد تصل نتائجها إلى إخراج الأطفال من المدارس بسبب العجز المادي وعدم مقدرة الطلاب على الرؤيا والمتابعة وبسبب التنمر أحيانا من قبل الطلاب والمعلمين أيضاً.
والتسرب المدرسي ظاهرة أصيلة في سوريا رغم أنه مجاني كما يتم تقديمه ووصفه، وبالرغم أيضاً من وجود ضوابط ونصوص قانونية تعاقب ذوي الطلاب المتسربين، لكن للأسف لا أحد يتابع ولا أحد يسأل عن طالب متسرب لا قانونياً ولا مدرسياً ولا اجتماعياً.
يتركز تسرب الطلاب بعد المرحلة الابتدائية بنسبة عالية بين الطلاب الذكور، ولعدة أسباب أهمها عدم رغبتهم بالمتابعة في المدارس المهنية لأن معدل نجاحهم الدوري لا يسمح لهم بمواصلة التعليم في المدارس الثانوية العامة، ويعود هذا التقدير للأسف إلى وعي الطلاب والأهل إلى المآل شبه الحتمي للمستوى التعليمي لأبنائهم الذين يعانون من تراجع واضح في مستوى أدائهم التعليمي، وفي ظل غياب أي متابعة واهتمام خاصين بالطلبة الأضعف تعليميا، فيبدو الفشل وكأنه قدر يستبقه الطلاب والأهل معاً بقرار ترك المدرسة، كما أن فشل بعض الطلاب الذكور بالحصول على الشهادة الإعدادية يدفعهم بكل حزم إلى التوجه نحو سوق العمل.
أما التسرب بين الطالبات الإناث فيكون ما بعد نيل الشهادة الإعدادية، بسبب التزويج المبكر أو المستوى التعليمي المنخفض الأداء، والذي يهمل الفتيات الضعيفات علمياً، عدا عن قرار بعض العائلات بإخراج الفتيات من المدارس إما بسبب الحاجة لمساعدة أمها في إدارة شؤون العائلة كبيرة العدد، أو نتيجة قناعة ثابتة بأن مستوى الشهادة الإعدادية الذي يمكن الطالبات الإناث من القراءة والكتابة هو مستوى كاف لها، في بيئات تعتبر أن الزواج وخدمة بيت العائلة والإنجاب هو قدر الفتيات المحتوم.
بعد ” الحرب السورية ” تفاقمت مشكلة تسرب طلاب المدارس، وتضاعفت الأسباب الموجبة للتسرب، وأهمها تعدد قوى الأمر الواقع ما يؤدي إلى تعدد وزيادة أسباب التسرب، وأهمها سوء الأوضاع الاقتصادية والنزوح، واللجوء وتعثر الاندماج مع برامج تعليمية جديدة وعائق اللغة واختلاف مناهج التعليم وبيئته، وفقدان الأهل والبيوت والتجنيد الإجباري للطلاب والطالبات، ومنع الاختلاط وخروج عدد كبير من المدارس عن الخدمة بسبب الأعمال القتالية، وتعذر استحداث مراكز تعليمية في المخيمات وأماكن النزوح وفرض التعليم بلغات قومية غير مقبولة إدارياً لمواصلة التعليم في مناطق أخرى، أو للتسجيل الجامعي وغير معترف بها رسمياً حتى في حدودها الدنيا، وقد يؤدي هذا كله إلى ترك المدارس أو ضرورة دراسة منهجين متوازيين، كما أن بعد المسافات الجغرافية للمدارس المستحدثة يشكل سببا وجيها ومنطقيا خاصة اجتماعيا لمنع الطالبات تحديدا من الالتحاق بالعملية التعليمية ، إما بسبب عدم الرضا الاجتماعي عن عيش الطالبات في أماكن خارج السكن العائلي، أو للعجز المالي الكبير وارتفاع كلفة النقل والمواصلات ما بين مساكن الطلاب وعائلاتهم وقراهم وبين ومدارسهم البعيدة، إذن كل الأسباب لزيادة عدد الطلاب المتسربين والمتسربات متوفرة، والمحصلة مستقبل ضائع، لملايين الطلاب والطالبات وللمجتمع بكامله.
مستقبل يبني ضياعه على حاضر ممتلئ بالعنف والفقر وغياب المتابعة وانعدام المسؤولية الرسمية والمجتمعية، إضافة إلى فشل أو توقف مشاريع التعليم التي أعلنتها منظمات مدنية لأسباب يطول الحديث عنها، والمستقبل هو اللحظة الحالية، إذن بما أن الحاضر الحالي ضائع وشائك وظالم ومفقر ومنسي، فالمستقبل ضائع حكماً.
تبكي السيدة في مدخل البناء، كانت خارجة للتو من عيادة طبيبة العيون، أجابتها الطبية بكل صراحة، ابنتك تعاني من نقص حاد في عدة فيتامينات تغذي أعصاب العين، يجب تبديل نظارتها بسبب تراجع نظرها، والعينان مصابتان بجفاف بالغ وكسل خطير قد يدمر النظر.
ابنتها في السنة الأخيرة من هندسة المعلوماتية، لا غذاء في البيت يلبي احتياج الابنة ولا أخوتها، التخرج الحلم قاب شهرين أو أكثر بقليل، ومن حق الابنة المتفوقة أن تجني ثمار جهودها وصبرها وطول تعبها.
اتصلت الأم بعمة الابنة، عرضت عليها أن تستقبل الابنة حتى موعد التخرج، بإمكان العمة توفير كهرباء لمدة طويلة نسبياً تخفف من حالة الاعتام التي تعيشها الابنة المتفوقة خلال دراستها على ضوء مصباح شحيح، كما أن أسعار الفيتامينات غالية جداً، وحده النظام الغذائي الصحي والمتكامل هو من يحمي عيون الابنة، وهذا ظرف يمكن تحقيقه على مائدة العمة، وافقت العمة، وبكت الأم فرحاً، لكنها أوصت الابنة على أن تكون خادمة مطيعة لعمتها في كل شيء عرفاناً بالجميل ودافعاً لتحتفظ بها العمة أطول فترة ممكنة.
يبنى المستقبل على التعليم، وفي غيابه تتضاءل الإمكانيات الداعمة لبناء أجيال منخرطة في الإنتاج وفي الابداع، ماذا عن جيل كامل لا يعرف المدرسة ولا حتى كتابة اسمه.
تقول الإحصائيات إن ثلاثين بالمئة من الأطفال السوريين خارج عملية التعليم، يبدو الرقم الحقيقي أكبر من هذا بكثير، وإذا ما أضفنا له سؤال الجدوى أو التقييم الموضوعي لمستوى التحصيل العلمي والاستفادة وبناء الإمكانيات، إضافة إلى البحث في مستوى العملية التعليمية وسؤال الاستمرارية في متابعة التعليم من قبل الطلاب والطالبات، وسؤال الخيارات بالنسبة لهم وسبل دعمها، لابد أننا سنقع في صدمة الحاضر الضائع وصولا إلى تأكيد ضياع المستقبل، مالم تنهض مؤسسات وحكومات لدفع العملية التعليمية نحو الأفضل ونحو الوصول إلى بر الأمان المستقبلي، الشخصي والعام، ستزيد الأجيال الضائعة عدداً وقدرة وإمكانية ومشاركة، بالتعليم وحده يتم إنقاذ أجيال الحرب والجوع والحرمان والعنف والتغييب والأمية.