ممدوح حمادة
حين اقتادوه قبل الفجر من فراشه في ثيابه الداخلية أدرك أنهم ما كانوا ليفعلوا ذلك لو أنه لم يرتكب شيئا ما، ولكنه لم يستطع أن يعرف بالتحديد ما هو هذا الشيء، ولذلك أعمل ذاكرته بحثا عنه.
في التجمعات العامة كان يكيل المديح بشكل مبالغ فيه لكل من يشكل ذمه جريمة نكراء وتحديدا سيادته، وكان يمعن في ذلك لدرجة تصل إلى حد التأليه، لم يحصل على جائزة لقاء ذلك، ولكن لا يعقل أنهم ألقوا القبض عليه لهذا السبب فمثل هذه الأكاذيب كانت دائما جواز سفر للارتقاء وليس مبررا للاعتقال، بالتأكيد ليس هذا هو سبب جره من فراشه قبيل الفجر بقليل، لم يسمحوا له حتى أن يرتدي شيئا يستر به ما تسرب من عورته إلى العراء، (ولكن لا بأس رجال على بعضنا) قال في سره وتابع مؤكدا ( سيلقون علي شيئا ما هناك أستر به ما لا بد من ستره خاصة أن منظري بهذه الهيئة ليس مادة مغرية للبصر، عندما انظر في المرآة أقرف من عظامي البارزة لدرجة أنني اعتقد أحيانا انني هيكل عظمي واخاف من نفسي عندما تكون الإضاءة شحيحة يستغرق الأمر عادة بضع ثوان حتى أستوعب أن الذي في المرآة أنا، لا أحب النظر في المرآة)
بين الأصدقاء ورغم ثقته بهم كان يصمت وإذا تفوه صديق بكلمة ما عن هؤلاء الذين لا يجوز التفوه بحقهم إلا بالكلام الجميل، وسيادته على الاخص، كان يدافع عنهم أمام ذلك الصديق بشكل مستميت وسرعان ما يقطع علاقته به لدرجة أنه لم يعد له أصدقاء، لم يشكره أحد من الأعلى على فعله هذا، ولكن لا يعقل أنهم يقتادونه لهذا السبب.
صور سيادته كانت تزين جميع غرف منزله الكبيرة في الاطارات الخشبية المذهبة على الجدران، والصغيرة في الاطارات التي يمكن اعتبارها بحق تحفا فنية على الطاولات و في الفاترينات المختلفة الموزعة في غرف المنزل، حتى ان تمثالا من البرونز لسيادته كان على ظهر خزانة الكتب التي تتصدر غرفة الضيوف والذي وضعه خصيصا لكي يرى جميع زواره من يكون وما هو موقفه السياسي، فيتجنبوا الاحادث غير المرغوبة، ولكن لا يعقل انهم يقتادونه لهذا السبب.
أقاربه جميعا من ذوي السيرة والسلوك الحسن، ويتمتعون بعقول راجحة تجعلهم لا يرتكبون الأخطاء القاتلة، أبوه وأمه هما من علماه الصمت ولقناه أن المديح هو الدواء الفعال ضد زوار الفجر، الجدران والأثاث والهواء لا يمكن أن تتكلم، وحتى لو تكلمت فلا شيء يقولونه فهو حتى في وحدته يكيل المديح، عندما يشاهد التلفزيون يظن أن أحدا يراقبه ولذلك يعبر عن إعجابه تحسبا لكل الاحتمالات، نعم يمكن أن يتم إلقاء القبض عليه لما يدور في رأسه من أفكار سوداء يتمنى فيها أن تنشق الأرض وتبتلعهم جميعا، ولكن من أين لهم أن يعرفوا بهذه الأفكار التي لم تجد إلى لسانه طريقا.
(لا، إنهم يقتادونني لسبب آخر)، فكر في داخله، (ربما عثروا على خطأ في الحسابات في العمل، ربما تعرضت إحدى المباني التي وضعت مخططاتها لخلل ما، ربما تكون تلك الزجاجة التي سقطت عن حافة النافذة قد وقعت على رأس أحدهم فسببت له الأذى وربما قتلته ، ولكن لا ..إنهم لا يقتادون اللصوص والقتلة بهذه الطريقة، لا يأتون لأخذهم قبل الفجر، وعدا عن ذلك فهم لا يطمشون أعينهم بعصابات سوداء، لا بد أن الذي اقتادونني لسببه أمر أخطر من السرقة، وأخطر من القتل).
وبما أنه لم يتمكن من العثور على مثل هذا الأمر الخطير فقد تركه للوقت لكي يكشف له ذلك السر، والوقت لم يطل، ففي الصباح كان يقف أمام المحقق الذي ألقى عليه نظرة شاقولية من الأسفل إلى الأعلى شعر أنها منشار كهربائي يقطعه إلى نصفين مما جعل كل مفاصله ترتعد وقلبه يبالغ في الخفقان والعرق يتصبب من جبينه رغم الجفاف الذي أصاب حنجرته لدرجة أنه ظنها من الخشب.
– من هو المسيو جاك؟
سأله المحقق واثقا، فلم يزد على الغموض إلا غموضا، فهو لم يسمع بشخص بهذا الاسم من قبل، ولذلك فقد نفى معرفته، ولكن ذلك كما هو مألوف في غرف التحقيق، لم يرض المحقق الذي هدده بنبرة واثقة:
– لا تكذب، نحن نعرف كل شيء.
وبسبب الثقة التي كان يتحدث بها المحقق فقد تمنى لو أنه يعرف شخصا بهذا الاسم لكي يقول كل ما يعرفه عنه وينهي هذه المعاناة المريرة التي يقع تحت هولها الآن، ولكنه مع الأسف لم يكن يعرف مثل هذا الشخص مما جعله يؤكد نفيه من جديد، الأمر الذي أثار حنق المحقق الذي ضرب بيده على الطاولة وصرخ:
– لا فائدة من الإنكار، نحن نعرف كل شيء.
عندما لم يجد ما يقوله ظل صامتا مما جعل المحقق يعتقد أنها بداية الانهيار فسأله:
– المسيو جاك هل هو اسم حقيقي أم اسم حركي؟.. ما هي مواصفاته، هل هو طويل أم قصير؟ نحيف أم سمين، أصلع أم له شعر؟ ..ما لون عينيه؟
وبما أنه لا يعرف الإجابة على أي من هذه الأسئلة فقد صمت من جديد مما دفع المحقق لكي يفاجئه بحقيقة جديدة تجعل صمته بلا معنى:
– نحن نعرف أنك تقابله ، عليك أن تدلنا عليه لأنك لن تخرج من هذه الغرفة قبل أن تفعل ذلك.
عندها لم يجد بدا من البكاء قائلا:
– اقسم لك يا سيدي أنني لا أعرف شخصا بهذا الاسم.
تنفس المحقق بضيق ينم عن فقدان صبره وفتح درجا في طاولته أخرج منه رزمة من صور لرسائل متبادلة بينه وبين “سوزان”.
أما “سوزان” فهي سائحة أجنبية التقى بها منذ عام على الشاطئ ونشأت بينهما علاقة استمرت لأسبوع لم يتمكن لا هو ولا هي من نسيانه، فقد كان أفضل أسبوع من العمر لهما معا، أسبوعا كان فيه الشاطئ قطعة من الجنة، ولذلك فقد تطورت العلاقة إلى حب عنيف تمخض عنه عدد كبير من الرسائل المتبادلة بينه وبينها بعد أن غادرت “سوزان” إلى بلدها، وما أخرجة المحقق من الدرج كان صورا لتلك الرسائل بالتحديد.
– في الخامس عشر من نيسان تسألك “سوزان” في نهاية الرسالة عن صحة “المسيو جاك”.
قال المحقق متأملا ضحيته التي يجب أن تقر بالحقيقة بعد كشف هذا الدليل القاطع، ثم سحب ورقة أخرى من الرزمة وتابع:
– في السادس عشر من نيسان ترد عليها قائلا ( المسيو جاك مشتاق لك) وفي الثلاثين من نيسان تتلقى ردا تؤكد فيه “سوزان” أنها أيضا مشتاقة له، فتعلمها في الثاني من أيار أنه يعاني من وعكه، فترد هي في الخامس عشر من أيار موصية إياك بأن تهتم به ولا تهمله لأن لا قيمة لك بدونه، وفي السابع عشر ترد أنت قائلا إنك شديد الحرص عليه وأنه قد تعافى من الوعكة، وفي الثلاثين من أيار تطلب منك “سوزان” ألا تكشفه لأحد فتعدها في الأول من حزيران بأنك لن تفعل ذلك لأنك تعرف أهميته.
وبينما تابع المحقق قراءة المقتطفات المتعلقة بـ “المسيو جاك” في رسائل الاثنين كان صاحبنا قد تذكر “المسيو جاك” وتلك الليالي التي قضاها مع “سوزان” التي أطلقت اسم “المسيو جاك” على البطل الأساسي لتلك الليالي لكي تتجنب نطق التسمية الحقيقية التي كانت تعتبرها بذيئة.
قهقه بشكل هستيري ولم يتمكن من التوقف عن الضحك حتى عندما صرخ به المحقق، لا بل أن العنصرين اللذين كانا يقفان عند الباب أصيبا بعدوى الضحك فأخذت تفلت من بين شفاههما ضحكات لم يتمكنا من كبتها، وعندما انتهى ذلك أعلم صاحبنا المحقق بماهية “المسيو جاك” ماسحا عن عينيه بقفا كمه الدموع التي أفرزها الضحك.
سيطر على المحقق صمت من ذلك النوع الذي يرافق شخصا عندما يفشل في مهمة ما فيبحث عن طريق آخر للنجاح فأمر الحارسين باقتياده إلى غرفة التعذيب، وهناك لم يتغير شيء يفيد التحقيق، حيث كان يكرر نفس الإجابة رغم تلك الركلات الموجعة التي كان يتلقاها على “المسيو جاك” كلما أكد لهم من هو “المسيو جاك” .
تناوب عليه المحققون والجلادون ولكنه لم يغير شيئا في أقواله مما جعلهم يصدقون أخيرا فيطلقون سراحه.
عاد إلى بيته فوجد في صندوق البريد عشرات الرسائل التي أرسلتها “سوزان” في غيابه ، وكلها كانت تنتهي بالسؤال عن “المسيو جاك” الذي كان قد خمد نهائيا بسبب الرعب الذي أصابه والركلات الكثيرة التي تلقاها أثناء التحقق من هويته ولذلك فقد أصبح صاحبنا على قناعة تامة بأن الحب الذي كان يربطه بـ “سوزان” قد تعرض للدمار التام بعد مأساة “المسيو جاك” الذي كان أول وأهم مقومات ذلك الحب، ولهذا فقد جلس إلى الطاولة وكتب في رده على رسائل سوزان المطولة جميعها رسالة لم تحتو سوى على ثلاث كلمات: (المسيو جاك مات).