ثائر الناشف – الناس نيوز :
استمد الأدب العربي الكلاسيكي نسغ الحياة منذ أن عرف الأنواع الأدبية المعاصرة التي شقت طريقها إليه عبر الترجمات العديدة لأمهات الكتب، والمخطوطات النادرة التي وسّعت آفاق المعرفة في ذهن القارئ، ونمّت الذائقة الأدبية في وجدان المثقف الشرقي، لكنه “الأدب العربي” لم يستطع حتى الآن أن يفك ارتباطه الوثيق بالآداب الأجنبية، عبر الحد من تأثيرها المباشر، من خلال توسيع نطاق “الوعي الفردي” المحصور أصلاً في أوساط النخبة المثقفة، وتحويله إلى نطاق “الوعي الجمعي” الذي يستهدف في المقام الأول توعية الفئات الشعبية، عبر خلق حالات شتى من التأثير الإيجابي عليها.
فتأثير الآداب الأجنبية ظلَّ مُرتكزاً على النخب العربية التي أخذت كفايتها من التنوير الأدبي، وحققت السمعة والشهرة الواسعتين، لا سيما بعد أن عملت لردح طويل في حقلي الأدب والثقافة، سواء أكان ذلك من خلال الدراسات الأكاديمية أم من خلال الاشتغال في ميادين الترجمة والنقد.
يمكننا القول إن التأثيرات العميقة التي تركتها الآداب الأجنبية في وجدان المثقف العربي منطقية جداً، ولم تأتِ من دوائر الفراغ أو بسبب حالة النكوص الشديدة التي شابت الأدب العربي في إحدى المراحل الزمنية، بل لأنها جاءت -التأثيرات- مواكبةً تماماً لمرحلة الازدهار التي شهدتها الآداب الأوروبية في القرنين الماضيين اللذين شهدا انتعاشاً للآداب الأوروبية التي تماشت حركتها السريعة مع الحركات السياسية ذات البعدين الثوري والتحرري.
فيما كان التأثير المدرسي “الذي أصاب جوهر الأدب العربي”بعصريه الكلاسيكي والرومانسي طبيعياً للغاية، لأنه لم يكن بمنأى عن صد موجات التأثير تلك ليكون في وسعه الهروب إلى الأمام، وبالتالي فرض العزلة التامة، والانطواء على الذات في سبيل مقاومة رياح التأثير كلها.
غير أن المسائل اللامنطقية في الأدب العربي المعاصر، إنما تكمن في خضوعه التام لأمزجة السُلطات المُتقلبة، ولذا فإنه لم يستطع أن يُهيئ لذاته الظروف الموضوعية الملائمة لولادة النخب الأدبية الجديدة،غير تلك النخب المُغتربة والمُتأثرة إلى حد كبير بالآداب الأجنبية، فكل ما هو متاح الآن على الساحة الأدبية العربية لا يعدو أن يكون عبارة عن قطاعات وظيفية بصبغة ثقافية، فيما يحاول “الموظفون الثقافيون” بصورة مستمرة أن يخادعوا ذواتهم والمحيطين بهم من عامة الجماهير، من خلال ادعائهم بمزاولة النشاطات الأدبية كجزء راسخ من مهامهم اليومية.
وما دام الأدب في أساسه عملاً غير وظيفي، فشرط الاستقلال عن أهواء السلطة يعد واحداً من أهم الشروط التي من شأنها أن تؤسس للحالة المنطقية المُثلى، وأن تُعلي من شأن الأدب في أنظار الجماهير ليغدو عملاً إبداعياً خالصاً غير خاضع لأي تأثيرات سلبية عليه، كتلك التأثيرات التي تفرضها السلطة بصورة دائمة.
أمّا المسألة الأخرى الأكثر تعقيداً، والأشد إعاقة لحركة الإبداعات الأدبية، والتي تقف كحجر عثرة أمام ارتقاء الأدب العربي إلى مصاف الآداب العالمية باعتبار أن الأدب ذو رسالة معرفية وثقافية خالدة على مر الأجيال والعصور، مثلما هي رسالة الفن والموسيقى، فإنما تكمن في تأثير الخطاب الديني على الأدب عينه.
إذ لا يمكننا أن نغفل أبداً ما فعله ذلك الخطاب الديني ذا البعد الأيديولوجي التعبوي من تعطيل كامل لفحوى العملية الإبداعية، وهو ما جعل الأدب العربي في حالة ركود مستمرة، ويراوح في مكانه بحيث لا يلامس صلب القضايا الجوهرية التي تعاني منها المجتمعات الشرقية، وإن حاول ملامستها، فإنه لا يستطيع أن يُقدّم الحلول الكاملة ولا النهائية سواء من خلال النقد الأدبي أو من خلال المعالجات والمطارحات الفكرية، وهو ما عانت منه الآداب الأجنبية في المرحلة العصيبة التي سبقت عصر النهضة الأوروبية، لكنها سرعان ما تجاوزت آثار الخطابات الدينية التي لا تختلف في شيء عن نبرة الخطابات الشعبوية.
فيما لا يزال الأدب العربي يدور ضمن دائرة مغلقة دون أن يكون بوسعه كسر حالة الجمود الراهنة التي فرضها تأثير الخطاب الديني والتبعية الجبرية الكاملة لرغبات السلطة، ولذا فإنه لم يعد مستغرباًعلى الإطلاق أن يغدو الأدب العربي في حالة عجز تامة، طالما أنه ليس قادراً على إفراز نخب أدبية جديدة من شأنها أن تضخ الدماء في شرايين الثقافة والوعي العربيين.