[jnews_post_author]
الحياة بالنسبة للإنسان المعاصر ليست مجرد مأوى ومأكل وملبس، على أهمية مقومات الحياة الثلاثة هذه، إنها مجرد الأساس الذي يمكّنه من الارتقاء على سلم تحقيق ذاته ورضائه وسعادته. وليحصل ذلك يجب أن تتوافر هذه الأسس خلال حياة الإنسان في أقصر وأسرع وقت ممكن، بحيث يتبقى للفرد الوقت الكافي لتحقيق ذاته، وهذا ما تعمل عليه الدول التي يتوافر فيها مستوى جيد من العدالة واحترام حقوق الإنسان.
لا تختلف سوريا كثيراً عن محيطها العربي، والإقليمي إلى حدّ ما، في ابتلائها باستبداد قلص مساحة الحياة في حدود ممارسة الغرائز، بيد أنه كان للاستبداد فيها “نكهته” الخاصة، والذي لا يشبه غير نظيره العراقي في الهلال الخصيب المنكوب، ولو بصورة مقلوبة؛ بسبب خصوصية البنية الاجتماعية في البلدين.
لقد اجتمعت وتكاملت عدة عوامل لتجعل من سوريا ما أصبحت عليه منذ الخمسينات. ففي الداخل، افتُقدت، منذ عهد الوحدة المصرية – السورية (1958) وانقلاب البعث (1963)، تلك الآلية الداخلية للتطور “الطبيعي“، بمعنى استمرار التفاعل بين مكونات المجتمعين الأهلي (العائلات والعشائر والقبائل والطوائف والقوميات ومفرزاتها) والمدني (الأحزاب والجمعيات العابرة لبنى المجتمع الأهلي)، وضمان ارتقاء الأفراد من المجتمع الأول إلى الثاني لإنتاج بنية سياسية قادرة على تداول السلطة بصورة ديمقراطية.
وعلى الصعيد الإقليمي، اجتاحت سوريا الموجة القومية العربية الناصرية، ومقلّدتها البعثية لاحقًا، في أجواء الصراع مع التحالف الآخر المدعوم من قبل دول الخليج وتركيا (حلف بغداد)، وترك الطرفان بصماتهما في الواقع السوري الهش وغير المتبلور كحالة وطنية مهيمنة. أما التأثير الدولي فتمثل بدول المنظومة الاشتراكية، التي دعمت الاتجاهات الشعبوية العربية في وجه الاتجاهات التقليدية والمحافظة المدعومة من الغرب، كضرب من سياسة التنافس على الحلفاء بين معسكري الحرب الباردة.
نشير هنا إلى أن جاذبية الأنظمة الشعبوية في فترة نهوضها تكمن في تحقيق إنجازات ملموسة تساعدها في نيل التأييد من قطاعات واسعة أنهكها الفقر والحرمان، وفشلت أنظمة الحكم السابقة في تأمينها بالسرعة والوتيرة المطلوبتين. لكن الشعبوية غير المنضبطة خطر على الحاكم المستبد ونظامه، ويستخدمها كورقة مؤقتة ريثما يتم تثبيت الحكم بوسائل أخرى، على رأسها الإجراءات البوليسية. وبغياب الشفافية والإعلام الحر وحكم القانون واستقلال القضاء وحرية التعبير، تتجمع المفاسد لتطيح بكل الإنجازات، وتتكفل القيود المفروضة على ممارسة السياسة بشل إرادة الشعب وتحويله إلى جمهور مصفق وأبكم.
على العموم، تضافرت العوامل السابقة على إنتاج النظام السياسي الذي حكم سوريا منذ عام 1970، والذي عمل على فرض رؤاه وسياساته على المجتمع، كنظام شمولي مستقر إلى حد كبير، ليس بسبب تفاهم داخلي مبني على صياغة مؤسسات حكم قابلة للعيش وقادرة على مواجهة التحديات الخارجية، إنما كمحصلة لتأثير العوامل الخارجية، التأثير الذي وجد انعكاسه في طبيعة الترتيبات الداخلية التي تمت صياغتها كنموذج اقتصادي، اشتراكي – رأسمالي، في حين تم فرض القيود الصارمة على الحياة السياسية، كضرورة لاستمرار النظام الشمولي، وحُشر الشعب في قوالب تنظيمية كانت قد ابتدعتها الأنظمة الشمولية الشعبوية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. تمثّل الاستثناء هنا في ترك مجال محدود للأنشطة الدينية المسيسة من أجل تسويغ الاستبداد، وبخاصة الإسلامية منها.
سمح هذا التوازن باستمرار نظام الحكم في سوريا حتى بعد أن تهاوت دول المنظومة الاشتراكية، كأنظمة قمع وطغيان، واستعاد النظام توازنه عن طريق تعزيز العلاقات مع الغرب من أجل تعويض دعم الاتحاد السوفياتي ومجموعته. ظهر ذلك بوضوح بعد العام 2000، ومن خلال التوجهات الاقتصادية شبه الليبرالية المترافقة مع تحسن في العلاقات السياسية مع دول الغرب، بخاصة فرنسا، من دون أن يرافق ذلك أي تغيير يذكر على المستوى السياسي.
لقد كان الاستقرار السوري مخادعًا ووهميًا، لأنه ركز على الموازنة بين العوامل الخارجية على حساب استنهاض العامل الداخلي، الذي تم إلغاؤه عمليًا من خلال سلطة الظل “الأمنية“، إلى أن توافر لهذا العامل صاعق التفجير من سلسلة انفجارات “الربيع العربي“، فانهار الاستقرار، كبالون ثقبته إبرة.
لقد وصل المجتمع السوري إلى حالة من الموت السريري، كما حصل لدول المنظومة الاشتراكية، ولكنه تأخر عنها بسبب استعادة توازنه بعد أفولها، مع أن عوامل الانهيار هي ذاتها، لاستحالة حصول أي تقدم حقيقي بغياب السياسة وحرية التعبير وتبني الرأي الواحد. على سبيل المثال، كيف لمجتمع أن يتقدم حين يكون الشرط الأساس لاختيار الأشخاص لتولي المناصب، من مستخدم إلى وزير، هو الولاء لنظام حكم لا يتبدل، ما قاد إلى استبعاد الكفاءات وحصارها وهجرتها، وخلوّ الساحة إلا من المتسلقين والانتهازيين والفاسدين ليصلوا إلى أعلى المراتب، هذا الشرط، لوحده، كفيل بأن يفضي إلى تدمير الاقتصاد والقيم الاجتماعية ذات الصلة في أي مجتمع.
مثال آخر حول تدمير القيم الروحية والثقافية يمكن إيراده من التعامل مع الفنون الشعبية، التي تم تشويهها وتجييرها لتمجيد الحكام ومديحهم حتى في الأعراس والمناسبات الخاصة، ومع أن هذا الأمر كان معروفًا في تاريخنا، فجديده هو في عدم ترك أي هامش للفنون أن تنمو وتتطور بحرية لتعبر عن أحاسيس الناس وتسمو بها، وسط سيطرة شمولية لا فكاك منها، والتي لم تتوقف يومًا عن التحالف مع سلطات دينية تتعايش على الجهل والتجهيل، وتمجد الحاكم كإله مصغَّر.
لم يبدأ الموت السوري في عام 2011، إنما تكثّف هذه المرة على هيئة فاجعة، وتناثرت شظاياه على مساحة البلاد، وكان يمكن تلمس مقدماته وإرهاصاته في كافة مجالات الحياة، كطريق تقود إلى الهاوية. مع ذلك، وكأي موت في الطبيعة، هو بداية حياة جديدة تتفتّح في أرضٍ اجتاحها حريق كبير.
منير شحود