إبراهيم حاج عبدي – الناس نيوز ::
يناقش مسلسل “النار بالنار”، للمخرج السوري محمد عبد العزيز، عددا من القضايا الإشكالية التي تتحكم في العلاقة بين لبنان وسوريا، وذلك من خلال تجربة درامية مغايرة لما عهدناه في الأعمال المشتركة للبلدين الجارين.
غالبية تلك الأعمال المشتركة استعانت بنجم سوري وممثلة حسناء لبنانية تنشأ بينهما قصة حب على خلفية وقائع درامية هامشية، دون الخوض في تعقيدات العلاقة بين لبنان وسوريا، غير أن مسلسل “النار بالنار” الذي كتبه رامي كوسا، يكسر هذه “الرؤية النمطية” ليجهر بالمسكوت عنه، ويستحضر إرثا ثقيلا يلقي بظلاله على العلاقة المتشعبة بين بيروت ودمشق.
في “النار بالنار”، الذي انتجته شركة الصباح، سنشاهد التداعيات الاجتماعية للتدخل العسكري السوري في لبنان إبان الحرب الأهلية، وممارسات الجيش القمعية التي حصلت، آنذاك، وسنتعرف على جانب من قضية مفقودي الحرب الذين لم يُعرف مصير بعضهم إلى اليوم، والتحديات التي يمثلها اللاجئون السوريون في بلد صغير مثل لبنان وتنامي العنصرية ضدهم، فضلا عن الأزمات المعيشية التي يعيشها اللبنانيون والتي تتفاقم يوما بعد يوم.
هذه العناوين لا تجري مناقشتها في المسلسل على نحو نخبوي وعبر شعارات كبرى، وإنما تتكشف تفاصيلها، بسلاسة، في حي بيروتي شعبي بسيط، اسمه، وللمفارقة، “حي السرور”، يضم عددا من اللاجئين السوريين، ومن خلال يوميات ذلك الحي سنصغي إلى نبرة الشجن التي تسكن أرواح السوريين واللبنانيين، فالطرفان هما ضحايا ألاعيب السياسيين، وأمراء الحرب، رغم ما يجول في خواطرهم من عداء خفي أو معلن ضد بعضهم البعض، وسط بيئة غارقة في الفقر والعوز.
سنرى في هذا الحي شرائح اجتماعية مختلفة، كالمرابي الجشع عمران (عابد فهد) الذي يستغل ظروف الفقراء فيقرضهم أموالا بفوائد عالية، وهو صاحب نفوذ واسع عبر شبكة علاقان مشبوهة مع الضباط والسياسيين وتجار الدم على طرفي الحدود، ومريم (كاريس بشّار) التي تظهر في أحد أجمل أدوارها عبر تجسيد شخصية امرأة سورية لاجئة أثقلتها متاعب الحياة، وأرهقتها قتامة الظروف، فتطمح في السفر بعيدا، إلى ألمانيا، عبر الأمم المتحدة، لكن هذا الحلم الغامض، الذي قد ينتشلها من واقعها البائس، لا يتحقق، إذ تتورط في مشاكل الحي اللبناني لتلقى حتفها، في النهاية، على يد زوجها الذي يفترض أنه قتل على يد أحد الجماعات المتطرفة في سوريا، فخاضت تجربة حب مع الموسيقي اللبناني عزيز (جورج خباز)، لكن الأقدار هنا أيضا لم تكن رؤوفة مع امرأة حرمت من مباهج الحياة، فأغلقت عينيها للأبد على أحلام لم تتحقق قط.
يتألق خباز في تجسيد شخصية رجل لبناني يبحث منذ أربعين عاما عن والده المفقود خلال الحرب الأهلية، وهو يتهم السوريين بذلك، فآخر شيء يعرفه عن والده هو أنه اختفى عند حاجز سوري ببيروت. ما جرى لوالده يشكل حافزا لكراهية اللاجئين السوريين الذين ينظر إليهم كمتورطين في المحنة التي يعيشها، وهو ما تجلى في حوار مع مريم، إذ يقول لها في أحد المشاهد: “ماضيكم معنا بشع وحاضركم أبشع، نحنا بعتنا (أرسلنا) وراءكم على أساس قوات ردع عربية، صار بده مين يردعكم (أصبح هناك حاجة إلى من يردعكم)”. لكن كل ذلك لا يمنع عزيز من الوقوع في حب مريم، وكأن المسلسل يريد القول، هنا، إن المشتركات الإنسانية والمشاعر الوجدانية أقوى من كل “تراكمات الحقد” التي صنعها السياسيون والعسكر.
وثمة شخصيات أخرى تعيش في الحي مثل المثقف والصحفي اليساري جميل (طارق تميم) الفوضوي والمسالم، والذي يحتفظ بصور لغيفارا وزياد الرحباني وسليم بركات ولوحات ليوسف عبدلكي على جدار منزله المتواضع، وكذلك الإسلامي الراديكالي زكريا (طوني عيسى)، الذي يتورط في تفجير ويلقى فيه حتفه، والفتى بارود (تيم عزيز) بائع اليانصيب الذي يتحايل على ظروف الحياة ويعيش في سيارة مهجورة.. وغيرها من الشخصيات التي تعكس صورة يوميات الحي عبر حوارات وعلاقات تظهر هموم اللاجئين السوريين، وتسلط الضوء كذلك على ما يعانيه اللبنانيون من سوء في الخدمات ومصاعب العيش في ظل الوضع الاقتصادي السيء، ففي الحي الذي تدور فيه الأحداث سنرى الفلتان الأمني وانقطاع الكهرباء وفضائح السوشيال ميديا والاتجار بالكلى والأعضاء البشرية والدعارة والمقامرة والتحرش وتزويج القاصرات.. وغير ذلك من الآفات الاجتماعية وصولا إلى مسألة تجميد ودائع اللبنانيين في البنوك التي يفترض أن تكون المكان الأكثر أمانا للمدخرات، لكن في لبنان ليس الأمر على هذا النحو فحيتان المال استحوذوا حتى على تلك المبالغ الصغيرة للفقراء.
تتزاحم هذه القضايا والإشكاليات في المسلسل من دون أن يقترح حلولا لها، فالعمل يروي فصول الألم بلغة بصرية مشغولة بعناية، ويخوض في عتمة أزقة الحي عبر حوارات وسلوكيات نعتقد معها بأننا نتلصص على وقائع هذا الحي عبر عدسة فضولية تنقل حرارة الواقع دون رتوش أو تزيين، فعند كل زاوية في مدخل كل بناء ثمة قصص عن الفقد والخسارات والآمال الخائبة.
ورغم أن المسلسل قد أصابه الترهل في حلقاته الأخيرة، ووقع في فخ المبالغات الدرامية، غير أن ما يسجل له هو تجسيد معظم الممثلين لأدوارهم على نحو محبب، وخصوصا كاريس بشار وعابد فهد وجورج خباز وطارق تميم وساشا دحدوح… فتحول المسلسل، عبر هذا الهارموني بين الممثلين، إلى دروس في متعة التمثيل تحت إدارة مخرج تمكن من توظيف قدرات ممثليه، الذين قدموا أفضل ما لديهم، ناهيك بالطبع عن الحوارات اللماحة والذكية التي نكأت جروحا غائرة بين البلدين اللذين يعجزان عن التهرب من لعنة الجغرافيا، ووطأة التاريخ، فتظل العلاقة بينهما مضطربة، يطبعها نصف قرن من “الاختلال السياسي” الذي كرسه الطموحات القاتلة للسياسيين والعسكريين الذين يتشبثون بكراسيهم، دون أن يأبهوا بما يعانيه البشر على طرفي الحدود.