بثينة الخليل – الناس نيوز ::
لا تنتهي قصص المأساة السورية، وهي تزداد كماً وتنوعاً، حتى باتت تشبه قصص ألف ليلة وليلة، أو ألف مأساة ومأساة.
آخر هذه المآسي، غريبة، لدرجة أن الناس تتعامل معها وكأنها طرفة، أو سخرية قدر. فما كان يخطر على بال السوريين المقيمين في خيام النزوح الباردة والبائسة، في شمال غرب سوريا، أنهم سيتحولون إلى مستضيفين وسند لأشقاء لهم أشد بؤساً وحاجة للمساعدة.
أكثر من 170 ألف سوري مقيم في شمال غرب سوريا، أو المحرر، فقدوا بيوتهم في زلزال 6 فبراير/شباط، كانوا سعداء في البداية بأنهم مازالوا على قيد الحياة، ثم انشغلوا بالبحث عن أعزائهم المفقودين، أو الراقدين تحت الركام، ثم استفاقوا على حقيقة مرة، وهي أن إعادة بناء بيوتهم عملية مكلفة وصعبة وطويلة، قد تتطلب عدة سنوات، وربما تصبح حلماً غير قابل للتحقيق مدى الحياة، وبالتالي فإنهم مكرهون على العيش في مخيمات في مدنهم، أو قريبة منها، مكتظة بضحايا أشكال لا نهاية لها من المصائب، من قصف، وتهجير قسري، وملاحقات.
صورة مروعة، قد لا يكون العالم شهد مثيلاً لها. منكوبون يطرقون أبواب نازحين طالبين المساعدة، وأن يتشاركوهم الخيام، والمخيمات، والمساعدات، وأدوات التدفئة والإضاءة.
أول اكتشاف سعيد للنازحين الجدد، أو نازحي الزلزال كما باتوا يسمون، هو حفاوة وترحيب النازحين القدماء بهم، وتقاسمهم القليل الذي يملكون، معهم، دون تردد.
أما الاكتشاف الثاني فهو أنه في الخيمة، والمخيم، والتشرد، لا قيمة لسبب قدوم الشخص، ولا لتسميته الرسمية (نازح أم لاجئ أم منكوب أم مشرد)، فالهارب من الزلزال لا يختلف عن الهارب من القصف، ولا الهارب من الاعتقال والتعذيب والتهجير. والهارب من حيه، كالهارب من مدينته كالهارب من وطنه، كلهم يعاملون بنفس المعاملة، وكلهم ينتظرون المساعدات، فما يقال عن تدفق المساعدات لضحايا الزلزال، كلام ينفع لنشرات الأخبار، أكثر مما ينفع لتدفئة وإطعام وإكساء المشردين.
الاكتشاف الثالث كان خاصاً بأصحاب السوابق في النزوح والتشرد، فهؤلاء، وهم كثر، اكتشفوا أن دخول الخيمة والمخيم للمرة الثانية أو الثالثة، طعمه مر، بنفس مرارة دخولهما لأول مرة. وقد يكون أشد مرارة. فاللجوء والنزوح والتشرد، محن لا تصبح أسهل بالتكرار.
الاكتشاف الرابع، هو الأكثر غرائبية وسريالية، اكتشاف أن الخيمة بكل سلبياتها ونواقصها، تصبح ذات ميزة كبيرة في فترة الزلازل، فهي وإن سقطت، لا تقتل ولا تؤذي ساكنيها. حين تنام في خيمة، تشعر بأمان أكثر من النوم في بيتك أو في فندق أو مبنى في فترة الزلازل والهزات. لقد رأى سكان الخيام لأول مرة ميزة لخيمهم على البيوت، يحسدهم عليها، ويأتي ليشاركهم بها، أشخاص كانوا أصحاب بيوت وعمارات.
مدينة أرمناز الواقعة في محافظة إدلب، شمال غرب سوريا، قرب الحدود التركية، كانت مسرحاً لقصص نزوح غريبة. فالزلزال دفع من فقد بيته من سكانها، للتوجه إلى مخيم للنازحين، تم إنشاؤه قبل ثلاث سنوات ونصف، على أطراف المدينة، لاستقبال الهاربين من القصف الروسي والأسدي.
وبخلاف قصص النزوح التقليدية حيث يسافر النازحون مسافات طويلة، لم يكن على منكوبي أرمناز سوى السير كيلومتر واحد ليصبحوا نازحين، بكل ما للكلمة من معنى، بما في ذلك السقوط من أعلى السلم الاجتماعي، إلى أسفله ببضع دقائق.
محمد العشو، وهو من حارة “التلة” بأرمناز، توجه برفقة عائلته إثر الزلزال إلى المخيم بعد أن شهد انهيار منزله، يقول للناس نيوز: “عندما ضرب الزلزال منزلنا كنا نائمين.. استيقظنا نستغيث، وكنا بين الحياة والموت. عندما هدأت الهزات خرجنا نركض فوق الأنقاض.. ركضنا مع عدد من الأهالي عبر البساتين.. لم نرى أمامنا سوى مخيم يقال له مخيم أم سليم فالتجأنا إليه “.
أما محمد ديب عبد الناصر، فوصف لنا بتفصيل أكثر، ما عاشه في تلك الليلة المشهودة. “يوم وقوع الزلزال، وعندما بدأ الاهتزاز يشتد، بدأ المنزل ينهار أمامنا.. الدار تهدمت، لم يبق سوى سقف واحد.. الله حمانا.. تم إخراجنا من بين الحجارة أنا وزوجتي وأطفالي.. الحارة كلها تهدمت.. لم نجد أمامنا سوى المخيم لنحتمي به. وحالياً نحن 3 عيل نقيم في خيمة واحدة”.
سامي يوسف قزموز قال للناس نيوز بحزن وصدمة: “شعرت بالزلزال من اللحظة الأولى، حملت أطفالي وهربت بهم إلى الشارع.. كان الناس منتشرون في كل مكان حتى في البساتين. حاليا نحن نحتمي بخيمة”.
وتقول أم محمد “فزعنا من النوم وأطفالنا تبكي وتصرخ والأرض تهتز والجدران تتصدع.. لا نعرف كيف نجونا.. ركبنا سيارة نبحث عن مأوى.. وجدنا مجموعة من الناس وجهونا إلى المخيم ..استقبلونا بالمخيم ودفونا واعتنوا بنا”.
السيدة براءة أم عبدو، أم لثلاثة أطفال بينهم طفلة رضيعة تبكي، حكت لنا قصتها بمرارة : “فجأة بدأت الأرض تموج يميناً ويساراً.. أجسامنا فقدت التوازن، ولم نعد قادرين على الوقوف.. السقف بدأ ينهار.. ولم نعد نرى بسبب الغبار والركام.. بدأنا ننادي الأهالي.. يا أهل الخير أخرجونا.. وأخرجونا بصعوبة، وجئنا للمخيم القريب”.
ويصف طفل بخوف ما رآه لحظة وقوع الزلزال، “اهتزت الدنيا، وصارت تقع الجدران.. صرنا نركض.. جئنا على المخيم.. أعطتنا الخالة أم سليم خيمة.. وسنبقى في الخيمة، صرنا نخاف من الجدران”.
وتحدثت “الناس نيوز” مع أهالي المخيم، وسألتهم عن ما عاشوه في تلك الساعات العصيبة. الطفلة إيمان تقول أنها وعائلتها استقبلوا النازحين الجدد وخففوا عنهم حزنهم وهمهم،. تقول :”كنا نايمين بالليل. صحينا على أصوات أولاد عم تصرخ وتبكي.. صرت أراضيهم وأحاول أبعد الحزن عنهم”.
السيدة خديجة شقرون، أم سليم، التي يحمل المخيم اسمها، استقبلت النازحين الجدد تلك الليلة والمطر كان يبللهم، وبدأت بتوزيعهم على الخيم وحاولت أن تقدم لهم ما ينقصهم من أساسيات في ظل وضع إنساني صعب يعيشه أصلاً قاطنو المخيم.
تقول أم سليم مديرة المخيم للناس نيوز : “يوم الاثنين حوالي الساعة 4 ونص شعرنا أن أرض المخيم تهتز.. ثم بدأ الاهتزاز يزداد أكثر.. وبعد فترة قصيرة وجدنا الناس تتراكض برعب باتجاه المخيم، كونه موجود في أطراف البلد”.
وتضيف أم سليم، “مخيمنا كان يحوي 35 عائلة هاربة من قصف طيران الأسد وروسيا.. بينهم مسنون وذوو احتياجات خاصة وأرامل وأيتام. وبعد الزلزال استقبلنا 58 عائلة جديدة وأصبحت جميعها تسكن في خيم مسكونة فعلاً.. لكن هذا الحال لم يمنعنا من فتح خيمنا لحمايتهم ومنحهم الأمان.. وهناك ترقب شبه يومي لما قد تأتي به الأيام. كانت ليلة مأساوية بكل ما تعنيه الكلمة”.
وتختم أم سليم، حديثها بالقول “تلقوا قليلاً من المساعدات من قبل أهل الخير لتعينهم، لكن لا يوجد ما يكفي من الخيام، ونرجو من المنظمات الإنسانية مساعدة هؤلاء المنكوبين”.