سلوى زكزك – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسة للفنانة الاردنيه : بسمة النمري .
إنه يوم الجمعة، كل المحال التجارية مغلقة، حتى محال السمانة التي لم تغلق أبوابها في أيام الجمعة من قبل، أغلقت أبوابها اليوم بسبب قلة المواد المتوفرة وتعذر توفر السيولة واقتصار الشراء على الأساسيات، كما أن غياب الكهرباء منع باعة البقالة من تخزين الألبان والأجبان والخبز.
لكن لكل قاعدة استثناء، وهذا ما حدث في سوق الخجا حيث خالف باعة الحقائب موعد العطلة الأسبوعية وفتحوا أبواب محالهم تلبية لازدياد أعداد من المسافرين، لكن المشهد الحقيقي يقول وخاصة المسافرات! وبصورة تدعو للدهشة ومراجعة كل الحسابات والروايات السابقة.
يختص السوق في بيع كافة أنواع الحقائب المدرسية والخاصة بالسفر، ويشهد حركة بيع نشطة، شابة تقف مع أمها على زاوية السوق بعد أن اشترت حقيبة كبيرة خمرية اللون، تصرخ الأم بابنتها طالبة منها إبعاد الحقيبة عنها، يبدو ان الشابة هي آخر من تبقى للأم هنا، كل الأبناء سافروا سابقا، لكن سفر هذه الشابة يعني غير الحزن والغياب، بقاء الأم وحيدة حتى زمن يصعب تقدير نهايته، لطالما صرحت الأم بأنها لن تسمح بهجرة ابنتها، لكنها أذعنت مرغمة بعد حصول ابنتها على موافقة على إكمال دراستها الجامعية في إيطاليا.
باتت الهجرة الهاجس الأول للسوريين والسوريات، ويتم التعامل معها وكأنها الحل الوحيد للخروج من الأزمة المعيشية الخانقة التي تجاوزت حدود التحمل الأدمي، توقفت عجلة الحياة وباتت ملامح الحياة مقتصرة على تفاصيل ترتيب الهجرة وكل ما يرتبط بها، لدرجة أن الراغبين بالهجرة يبيعون كل شيء مقابل الوعد بالخلاص، يموتون على المعابر الحدودية، و يعرضون حيواتهم للخطر اليومي ويعلنون رغم انغلاق أفق هجرة آمنة بأنه لا عودة حتى لو في توابيت محكمة الإغلاق.
يتصل أحمد بشقيقته لبنى، رفيقي يرغب بخطبتك، ترفض لبنى فورا، أريد أن أتخرج، ورفيقك غير حاصل حتى على الثانوية، تتدخل أمها: قولي نعم، ماذا تنتظرين من هذا البلد، في كل يوم أخاف من ألا تعودي إلى البيت، أخبار الخطف والاتجار بالبشر وخاصة الفتيات والنساء الشابات، واخبار حوادث السير والتحرش في المواصلات العامة، تردد الأم بصوت مقهور لكن شبه حازم: قولي نعم، واشترطي خطبة طويلة حتى ضمان التخرج، تندهش لبنى! لا تصدق أن أمها من يردد هذا الكلام على مسامعها ومسامع أخيها، ترفض والدموع في عينيها وتقول لأمها: كله موت! فلا تقارني بين موتين يا أمي .
تغيرت بشكل شبه جذري مواقف العائلات من سفر بناتها، لدرجة أن إحدى الأمهات صرحت علنا لابنتها التي قررت فسخ خطوبتها من شاب لاجئ، قالت لها بصريح العبارة: الطلاق هناك أسهل، يضمن لك حقوقك ولن تعودي إلى بيت أهلك مكسورة وضعيفة.
لكن للابنة قرار آخر، لن تتزوج لتتطلق، ولن تعيش ساعة واحدة مع شخص لا تحبه. ردت على أمها قائلة: اطمئني لن أتزوج إلا لاجئا كما تشتهين، صمتت الأم وابنتها، وأما الأب فأجاب قائلا: الحرب ضيعت كل عاداتنا، بدا قلقا وضعيفا في ذات الوقت، لا قدرة له على التحكم بقرار ابنته ولا بتصريحات زوجته، ثمة واقع يصوغ نفسه تحت ضغط تبدلات جذرية عظيمة، تبدلات لا يمكن ردها ولا التحكم بها أو بنتائجها.
في كافة المجتمعات وخاصة الريفية يشترط أهل العروس إجراء حفل الزواج في قرية العروس، يصعب عليهم خروج ابنتهم إلى مكان آخر ولو كان مكان سكن العريس دونما زواج، عادات حافظ الجميع عليها بالتزام بالغ ومتناقل عبر الأجيال، لكن كل شيء قد تغير، وباتت أماكن الزواج خارج مساحات جغرافيا سكن العائلات، ومتاحة أمام الجميع، وخاصة في بلاد اللجوء ودون حضور أهل العروسين.
خلال أسبوع واحد ودعت ميرنا صديقتيها المقربتين، الأولى سافرت إلى السويد والثانية إلى هولندا بدعوة لم شمل من خطيبيهما، سافرتا لإتمام مراسم الزواج في البلاد الجديدة، كيف وافق الأهل على ذلك؟ تجيب ميرنا: بات الأمر عاديا جدا، حتى أن إحدى صديقتي ستسكن في بيت العريس قبل مراسم الزواج، وتتدارك الحديث قائلة: سينام عند صديقه المقرب مدة أسبوع قبل الزواج، وتضحك! ربما هي خدعة أمام الأهل فقط! لقد تغير كل شيء! تقول هذا وتتبعه بعبارة: زمن المراقبة انتهى .
هل انتهى فعلا زمن المراقبة أو الرقابة؟ من يراقب من؟ ومن يتحكم بالرقابة على من؟ هل ترتبط فكرة اللجوء بفكرة الحرية الشخصية وبالخلاص من كل هذا الإرث الكبير والمتأصل لعادات الزواج التي اعتدنا عليها ومارسناها بعناية وحرص بالغين؟ .
لا أحد يملك إجابة كاملة أو حقيقية، كل القصص متروكة للاختبار الآن، لكن الثابت الوحيد أن اللجوء بات حلما ووجهة للحالمين والحالمات بأفق متغير ومنفتح على خيارات أوسع، أكثر حرية وأقل خسارات.
تقرر سناء بيع خزانة الملابس في غرفة بناتها الثلاث اللاتي هاجرن كل منهن إلى بلد، ما نفع الخزائن وهي فارغة؟ تقول سناء وتبكي، ما نفع البيوت وهي كئيبة، تحاول تغيير المزاج الحزين الذي فرضته على زوارها وتقول: ( الله يسعدن ويبعدن، هي البلاد مو لبناتنا ).
تتغير الصورة النمطية لسفر النساء وخاصة وحيدات؟ أم تنكسر حلقة قيود منع السفر وكأنها باتت معيقة للخلاص وبوابة للأمل والسلامة والمستقبل الآمن والرحب؟ لا أحد يمتلك جوابا شافيا، ولا قرارا حاسما.
تبدأ التغيرات دوما نتيجة ضغط الظروف القاهرة، وتنسحب على تغير بنية الرؤية العامة للقضايا مهما تكرست واستقرت، والحرب قوة قاهرة، تفرض شروطها وتفرض تغييرات غير قابلة للتراجع.
منع السفر ورهاب الانفصال ورعب الغربة ووهم الابتعاد عن الارتباط الوثيق بالعائلة، كلها مخاوف تتراجع، هل كانت أوهاما ؟ لا أحد قادر على إثبات ذلك، كانت نسقا حياتيا ونمط عيش مكرس وثابت وكل تجاوز استوجب الرفض والعقوبات، كل الرغبات السابقة كانت تحمل بذور نعيها في عز انتعاشها ولم تفز بها إلا القويات المغامرات.
حتى على أبواب بلاد اللجوء تنهمر الصور كالمطر، وتتراجع بطواعية بعد لحظة صحو، القلق زوادة الحياة الجديدة والتحدي لغة وهوية، رغم مرارة الغياب والخوف من عقبات من الرحيل، تتأمل النساء عالما أكثر اتساعا وألفة، والمدن الغارقة في دموع الأمهات ودهشة الآباء وإذعانهم للتغيرات الطارئة، تتحول لمجرد حقائب للسفر.