ريما بالي – الناس نيوز ::
ليلة الأمس سهرت مع الفيلم الأميركي Concussion، الذي أنتج عام 2015 مستنداً إلى قصة حقيقية، ولعب الدور الرئيس فيه النجم ويل سميث.
كلمة Concussion تعني بالعربي “ارتجاج في المخ”، وقد أتت مناسبة تماماً لمحتوى الفيلم، الذي يتحدث عن اكتشاف أحد الأطباء العلاقة بين احتراف كرة القدم الأميركية والإصابة بأمراض دماغية، تبدأ بالاكتئاب والقلق وقد تنتهي بالانتحار.
نظرية هذا الطبيب المختص بأمراض المخ والأعصاب تؤكد أن تعرض بعض اللاعبين لضربات الرأس بشكل متكرر، تحدث ضرراً في الدماغ لنسبة كبيرة منهم، تبعات هذا الضرر قد تصل إلى الإصابة بالزهايمر المبكر، والهلوسة والشقيقة والاكتئاب، وكثيراً جداً ما تنتهي بالموت أو الانتحار.
ينخرط الطبيب المذكور (وهو مهاجر أفريقي) في حرب شرسة مع الأجهزة الإدارية لكرة القدم الأميركية، التي تعد اللعبة الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، إذ خشي القائمون على الدوري والمستفيدون منه أن تحد نظرية هذا الطبيب إن تم الاعتراف بها من جموح اللاعبين في الحلبات، كما قد يترتب عليهم اتخاذ إجراءات مكلفة لحماية هؤلاء اللاعبين أو لمعالجة المصابين والتعويض للمتضررين، يفضلون أن يصمّوا الآذان وأن يتركوا الأمور كما هي، إرضاء للجماهير الغفيرة التي تدفع الغالي والرخيص لتهلل للأبطال المتصادمين والمتناحرين في الملاعب، وتعشق النجوم منهم، وتضعهم في مصاف الآلهة، طالما هم قادرون على إمتاع المشاهد، وإشباع لذته الجامحة.
يكدّسون الثروات إذ يلعبون على هذا الوتر، إمتاع الجماهير، وإشباع لذتهم وتوقهم للفوز والنشوة والاحتفال.
قدّم الفيلم في سياقه، نماذجاً لعدة شخصيات من اللاعبين الشبان المصابين، الذين ينتهي بهم الأمر مكتئبين أو مختلين ثم أمواتاً، بعد أن كانوا أيقونات قدّستها الجموع ورفعتها على الأكتاف.
ذكّرتني تلك النماذج، مع نظرة اليأس والبؤس التي أطلت بألم من عيونها في أواخر أيامها، بالنظرة التي أطلت أيضاً من عينيّ الممثلة آن دي أرماس عندما جسّدت شخصية مارلين مونرو، أسطورة هوليوود في فيلم Blonde، الذي بدأ عرضه مؤخراً، وهو من إنتاج العام الحالي، وأيضاً نفس النظرة في عينيّ أوستين باتلر الذي لعب دور إلفيس برسلي في الفيلم الذي يحمل اسم النجم الساحر المذكور Elvis، والذي أنتج أيضاً في العام الجاري.
الفلمان الأخيران يتحدثان أيضاً عن الاستغلال الذي يتعرض له النجوم من قبل رُعاتهم، كيف يصنعونهم، وكيف يجندونهم، وكيف يكسبون الثروات من عشق الملايين لهم، يخلقون منهم صوراً ملونة وأيقونات خشبية، دون الالتفات لهشاشتهم البشرية، وطاقتهم الجسدية والنفسية، وقدرتهم على التحمل والاستمرار، ما يؤدي بهم إلى الانهيار في نهاية الأمر، الذي يتجلى بنهايات مأساوية كنهاية مارلين مونرو وإلفيس بريسلي وكثيرين غيرهما.
تقول مونرو: “وراء الابتسامة والماكياج… أنا مجرد فتاة حالمة في هذا العالم”.
ومن أقوال إلفيس الشهيرة في أوقاته العصيبة: “لقد ذهبت بعيداً ولا أعرف كيف أعود”.
ويقول أيضاً: “الصورة شيء، والإنسان شيء آخر، صعب جداً أن نرتقي إلى مستوى الصور”.
يروي فيلم Elvis كيف تدهورت صحة بريسلي الجسدية والنفسية، عندما كان مدير أعماله كولونيل توم باركر (الذي لعب دوره بإجادة مذهلة الكبير توم هانكس)، يجبره على تناول الحبوب المنشطة والمهدئة، ليبقى متماسكاً ليستطيع تنفيذ العقود التي كان يوقعها بمبالغ باهظة، تلبية واستغلالاً للإقبال الشديد والتهافت الهائل على حفلات الفنان الأسطورة في كافة أنحاء أمريكا.
في ختام الفيلم وبُعيد وفاة النجم الفاتن عن عمر ناهز 42 عاماً، يقول باركر مدير أعماله (الذي كوّم ثروة فاحشة)، رداً عن اتهامات طالته كمستغل للفنان الأسطورة، ومتسبب في وفاته المفجعة: “لست أنا من قتل إلفيس، هل تريدون أن تعرفوا من قتله؟ الحب… حب الجماهير له، هو ما قتله”.
ورغم أن هذا الكلام لا يبرأ ساحة باركر، إلا أنه دق ناقوساً في داخلي، نبهني إلى مسؤولية الجماهير عن النهايات المأساوية لنجومها. نعم نحن مذنبون من حيث لا ندري في تدمير الحقيقة البشرية لنجومنا، ومن الحب ما قتل، الحب الجارف الذي يجرّد النجم من إنسانيته، ليكرسه نجماً بالمعنى الحرفي للكلمة، نجماً يلمع في سماء مظلمة تشتاق شيئاً من ضياء، وتبذل في سبيله الحب والوله والأموال الطائلة، من دون الاعتراف للمعشوق بكيانه البشري الذي يناله الضعف والمرض والاكتئاب والملل والفشل واليأس. الحب، ليست هي الكلمة المناسبة للعلاقة بين الجمهور والنجم، فهي علاقة استهلاكية أنانية، تشبه الإدمان، يعبد فيها الناس البريق المنبعث من النجم من أجل ما يعكسه من بهجة على ساحاتهم الباهتة، ولا يعود يهمهم في شيء إن خبا ضياؤه وزال ذلك الانعكاس.
كيف نفسّر إذن المبالغ الطائلة التي تُدفع ثمناً لتذاكر مبارايات كرة القدم أو الحفلات الغنائية، كيف نفسّر أن يكون حضور مباراة الكلاسيكو مثلاً، أو حفلة لكاظم الساهر، حلماً يسهر عليه بعض البشر ويدّخرون الأموال لسنوات من أجل تحقيقه؟ ثم على ضوء ذلك… كيف نستغرب الأجور الخيالية التي يقبضها نجوم الكرة والسينما، ومؤخراً، اليوتيوبرز والبلوجرز، وأبطال التيك توك والانستغرام وأشباههم.
إنهم هؤلاء من يضخ في دمائنا الأدرنالين، هرمون السعادة، النشوة أو الEuphoria، ومن أجل كل هذا، نحن نمنح كل ذلك الحب وتُنفق كل تلك الأموال، الأموال التي تذهب في نهاية الأمر بمعظمها إلى السماسرة، الإداريين، مدراء الأعمال، المدراء الفنيين…الخ، أولئك الوسطاء بين رغبات الجماهير، والمواهب التي يعرفون كيف يكتشفونها، ويلتقطونها، ويقدمونها، ويقبضون ثمنها، من جيوبنا، ومن حياة الموهوب ووجدانه وإنسانيته.
في نفس السياق، أتابع على التيك توك، حساباً لطفلة فاتنة اسمها داناي، بلغت الشهر الماضي عامها الثاني، ألاحقها بشغف وأضحك من أعماقي على حركاتها وخفة ظلها، وطريقتها في لفظ الكلمات وبراءتها، تُثير فيّ عواطفي كلها، تُحسّن مزاجي، وأكاد أقول إنني “بموت عليا”، ولكن… بدأت في الفترة الأخيرة أشعر حيالها بالقلق، بدأت أستنكر إصرار والديها على محاصرتها بالكاميرا طوال النهار واستجوابها، بدأت أشعر بالذنب من إدماني إياها، وأفكر بمدى صحة كل ذلك على صحتها النفسية، ما مصير هذه الطفلة بعد عدة سنوات؟ هل ستنشأ سوية وطبيعية كغيرها من الأطفال وهي المشهورة المحبوبة، والتي يمطرها (الفانز) بهدايا تصل بالأكوام إلى منزلها كل يوم؟ أبواها شابان ظريفان أيضاً، ولكن هل يدركان فعلاً مدى الضرر الذي يلحقانه بطفلتهما؟ هل يقومان بما يقومان به فرحاً بمواهب الصغيرة أم طمعاً بالمكاسب المادية التي تدرها عليهما كثرة عدد متابعيها؟
صرت أشعر بالذنب عندما أتلذذ بمتابعتها، وأنهي نفسي عن مهر الفيديو باللايك المنتظر… نعم لقد أعجبني للحظة، نعم لقد أسعدني للحظة، ولكن…لا أريد لهذه الطفلة أن تدفع ثمن تلك اللحظة، من سلامتها وصحتها النفسية والعقلية.
العالم فعلاً مجنون، وقبل أن يصبح مجنوناً، هو أيضاً مسكين، يستجدي لحظة فرح، ويشتريها بماله ودمائه ودماء المبدع الذي يمتلك الموهبة، عن طريق سماسرة أذكياء اتخذوا من الفرح حرفة وصنعة.. وطرحوه في السوق كسلعة مهمة قبضوا فيها أعلى الأسعار.
نعم… الفرح والتسلية والنشوة، ليست من الكماليات.. إنها للإنسان أساسيات متل الماء والغذاء… وقد صدق من قال: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.