ثائر الناشف – الناس نيوز :
يثار جدل كبير في الأوساط الاجتماعية والثقافية السورية حول ما إذا كان السوريون عربًا أم أنهم خليط متنوع من العرقيات السامية واللاتينية والآرية ذات الجذور التاريخية القديمة التي سكنت منطقة الهلال الخصيب ووادي الرافدين منذ آلاف السنين، وأن ما بقي منها اختلط مع القوميات الأخرى التي توافدت إلى تلك المنطقة بسبب الحروب والغزوات العابرة للحدود، فتشكَّلَ حاضر سوريا عبر ذلك الاختلاط القسري الذي كان عابرًا للإرادات البشرية، ومواكبًا لظهور الأديان الإبراهيمية.
غير أن الاصطفاف العرقي ما فتئ أن عاد للظهور مرة أخرى، انطلاقًا من تفاعل حدة الصراعات الدينية ذات السمات العقدية؛ لا سيما بين التيارين التوحيدي والوثني؛ فاتخذت تلك الصراعات لنفسها طابعًا تحرّريًا ثوريًا كالثورة المكابية التي دارت أحداثها على البقعة الجغرافية المسماة سوريا نسبة لسكانها السريان الذين يعتبرون وفقًا للخرائط الجينية والتاريخية؛ أحد أقدم المكوّنات العرقية ذات الجذور السامية التي سكنت منطقة وادي الرافدين، وأقامت أعرق الحضارات فيها إلى جانب الميديين الآريين في غرب آسيا، واليهود المزراحيين –الشرقيين- الذين يتشاركون معهم في الكثير الخصائص البيولوجية، وخاصة ما يتعلق بالأصل السامي الذي تنتمي إليه كذلك القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، وهو ذات الأصل العرقي الذي جرى تعميمه ثقافيًا على كافة السكان الذين قطنوا في سوريا على مر العصور، رغم اختلاف منابتهم، واختلاط دمائهم.
لقد تأسست فكرة القومية العربية في مطلع القرن العشرين كأحد أهم المنجزات النظرية والمشاريع الثقافية لما كان يعرف حينها برواد النهضة العربية؛ الذين أرسوا قواعدها ولبناتها الأولى انطلاقًا من سوريا لتكون الأخيرة رأس حربة في مواجهة المد القومي التركي، فرغم أن تلك المرحلة قد انتهت عمليًا بتفكك الدولة العثمانية، وتفتت حزب الاتحاد التركي، ومطاردة رجالاته القوميين؛ إلا أن فكرة الاستمرار في تبني النظرية القومية، قد راقت كثيرًا لأبناء الجيل الثاني من القوميين السوريين مع بزوغ شمس الاشتراكية في روسيا، وبروز التيارات القومية ذات الاتجاه الراديكالي في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن منظري القومية العربية كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم؛ أن التجانس العرقي الذي تأسست عليه الهوية الألمانية والإيطالية – على سبيل المثال لا الحصر- ليس متاحًا بذات الشروط الموضوعية، والخصائص البيولوجية، فيما يرتبط بتأسيس الهوية القومية ذات الانتماء العربي لسوريا.
كان التبرير والتلفيق العاملين الوحيدين اللذين استند إليهما منظرو القومية العربية في جعل سوريا حاضنة القومية، وبؤرة العروبة التي لا تغيب شمسها عن الشرق برمته، فانطلقوا في صوغ تبريراتهم من صلب نظرياتهم القائلة؛ طالما أن السوريين ساميون، فهم عرب بالضرورة، لأن كُل مَنْ هو عربي هو سامي بالضرورة، وحجتهم الوحيدة في ذلك أصل التسمية التاريخية لسوريا المقترنة بالشعب السرياني الذي يصنّف جينيًا كأحد أقدم فروع العائلة السامية، وأن ما يربطه بالعرب ثقافيًا وبيولوجيًا كاف لإسباغ الطابع العربي على سوريا، بل وجعلها عربية الهوى والهوية.
رغم أن السوريين المعاصرين يتحدثون بلسان عربي فصيح، وأن ثقافتهم هي الثقافة العربية، لكن الأبحاث والدراسات الجينية الحديثة، أكدت – بما لا يدع مجالًا للشك- أن الكثيرين منهم ينتمون بيولوجيًا، وحتى سيكولوجيا لعرقيات أخرى كانت جزءًا من ماضي سوريا، كالرومان، والأغريق، والمماليك الشراكس، والتتار، والفرس، والقوقازيين الآريين، وأنّ العرب -الشرق أوسطيين- هم أحد الأجزاء التي تتشكّل منها الهوية السورية المُختلطة، وأنّ حضورهم –العرب- في سوريا، كان مقرونًا في أساسه بانتشار الإسلام من الجزيرة العربية في بداياته الأولى، ولا شأن له بالهجرات التاريخية ذات الطابع التجاري؛ والتي كانت تتم من منطقة الحجاز العربية إلى بلاد الشام.
جدل الهوية الوطنية كان قد أثير من طرف النخبة الثقافية في لبنان ومصر حول حقيقة النزعة الفرعونية والفينيقية لشعبيهما، وما كان –ذاك الجدل- إلا تحيّزًا عرقيًا غير دقيق أساسه التمايز الثقافي، ولولا الهامش البسيط في حرية التعبير عن الرأي، وغياب الأحزاب القومية ذات الأيديولوجية الشمولية -كما هو الحال في سوريا- لما استطاع أولئك المثقفون المصريون ولا اللبنانيون أن ينبسوا ببنت شفة.
الأمر عينه يتكرر اليوم في سوريا في ظل مناخ الحرب الراهنة فيها؛ خاصة بعدما خرج السوريون من قوقعتهم وشرنقتهم التي ألزمتهم الصمت لأكثر من نصف قرن، والامتناع عن إثارة أي جدل في مثل هكذا مواضيع مُعقّدة ، لا سيما وأن الحديث في صلب هكذا مسألة حساسة يعتبر من المحرمات التي وضعتها السلطة أمام المجتمع، فالاقتراب منها يعتبر مسًّا بأقدس المقدسات، وخيانة لا تغتفر، لأنها تفتح الباب واسعًا أمام إثارة “النعرات العرقية” مثلما كان يظهر دائمًا في الأدبيات الحزبية ، بل إنها – السلطة – قرنت إثارتها بمزاولة أي نشاط سياسي سري، فالحديث فيها يعتبر أيضًا من الخطوط الحمراء، والمناطق الملغومة التي يحظر اجتيازها.
إنّ الدافع الذي يقودنا اليوم إلى الخوض في جوهر هذه المسألة، سببه التمزّق الكبير الذي أصاب النسيج السوري ذا العرقيات المتنوعة التي تشكّل في مجموعها ألوان الطيف السوري، مثلما تشكّل العرقيات المتشعبة جوهر الهويتين الكندية والأسترالية، لكن التعنت الشديد الذي ما تزال شريحة واسعة من السوريين تبديه إزاء تعصبها غير الواعي للهوية العربية كهوية قومية خالصة لسورية، رغم التشظي الذي أصاب الجغرافية السورية، وانكشاف الغطاء عن عورات السلطة التي ظلّت تتدثر ببرقع القومية العربية لردحٍ من الزمن، هو ما يعيق التوصل إلى الاعتراف الدستوري الكامل بحقوق المكوّنات والعرقيات؛ التي يشكّل حضورها المتنوع الأساس الثقافي والاجتماعي الذي يمكن أن تُبنى عليه دعائم الهوية الوطنية السورية مستقبلًا.
عادة ما يؤدي التعصب القومي لأي عرقية محددة أو إثنية معينة؛ دون الاعتراف والتسليم جدلًا وبداهةً بغيرها من العرقيات الأخرى إلى نشوب صراعات محلية وإقليمية، قد تتخذ سمة الحروب الأهلية مثلما حدث في مناطق واسعة من العالم، وخاصة في نطاق البلدان الشرقية التي انجرفت أجيالها المتعاقبة وراء بريق الشعارات ذات النزعة القومية على حساب تنمية الوعي، وإرساء مبادئ الديمقراطية، وقواعد حقوق الإنسان الأساسية؛ بما يؤدي في نهاية المطاف إلى بث الشعور الجمعي في نفوس الأفراد عبر خلق مفهوم الانتماء الأحادي إلى الوطن.
فالمجتمعات التي لا تملك رصيدًا كافيًا من الوعي اللازم لإدراك واقعها الثقافي المتنوّع من شأنه أن يتيح المجال أمام طبقتها السياسية، ونخبتها الحاكمة إلى إنكار الاعتراف بالهويّات والأعراق المتباينة؛ فضلًا عن هضم الحقوق المدنية والثقافية يمكن أن يضع البلاد في حالة مَرَضية مستديمة، أساسها ضعف المناعة الاجتماعية المتأتية أصلًا من الخلل الكبير، والعجز الدائم في تقديم تعريفات شاملة وواعية للهوية الوطنية.