عمر قدور – الناس نيوز ::
ربما حدث ذلك في خريف عام 1971، لا أذكر التاريخ بدقة شديدة، فقد كنت أيامها مشغولاً بترتيب أمور الحكم. كنت، على نحو خاص، مشغولاً بموضوع الدستور المؤقت، وبتفصيلاته.
علي سيقول لي، ولم يكن الدستور قد ظهر إلى العلن، أنني فصّلته على قياسي. تجاهلتُ ملاحظته حينها، وتجاهلت كلاماً قاله عن أفعال لرفعت لا تليق بنا كقادة جدد ثوريين. هو أتى أصلاً لينقل لي مآخذه على رفعت، لذا خرج غاضباً بعدما فهم جيداً عدم اكتراثي بكلامه.
لا أحد سواه، هو علي حيدر ابن أبيه وعائلته وعشيرته، يفعل مثله، ببساطةِ ما فعل وشعبيته. هناك، في جبلة، جلس بين الناس في الحواري، جلس على الأرصفة، وهو يقول لهم: بهالبوط حطّيته رئيس، وبهالبوط بشيله.
كان غاضباً ناقماً، وواثقاً من نفسه. لطالما حسدتُه على ثقته بنفسه، أحسب أنها فطرة، أو موهبة يكتسبها الشخص منذ طفولته المبكرة.
لا أعني الثقة التي قد تأتي فيما بعد من امتلاك السلطة، فهذه أعرفها، ولديّ فائض منها، لكنها لا تعوِّض ما أعرفه عن طبعي الأصلي المتردد المتمهِّل الذي يخشى المجازفة.
ما أستغربه أن ينجو هو بثقته المفرطة بنفسه، فقد كنتُ قادراً على إيذائه من دون أن أظهر كفاعل لذلك، وأظن أن رفعت كان يتوق لتلقينه درساً، لا لشيء سوى إحساسه بالمنافسة بينهما. طبعي جعلني أحسبها جيداً، فأرى في بقائه إلى جانبي مكسباً يفوق ترْكه يتحدث هكذا بين الناس حتى يملّوا منه، أو يملّ هو من التكرار، ويصبح منسياً.
مرة، فيما بعد، مازحتُه بقولي أنني مدين بالرئاسة له، وضحك هو قائلاً أنني منذ كنا صغاراً لا أنسى مطلقاً، ولا حتى تلك المزحات البريئة، أو ردود الأفعال الغاضبة العابرة. ما قصدته لم يكن فقط تذكيره بكلامه بين الناس، بل تذكيره بأنني كوزير للدفاع آنذاك مَن أصدر أمر تعيينه قائداً للوحدات الخاصة.
أردت تذكيره بأن له نصف جميل في رقبتي بسبب موقفه من انقلابي، فقد فاتحته أيامها “بتردد وتوجس” بمآخذي على رفاقنا في الحزب والحكومة، ولمّحتُ إلى واجبنا العسكري الذي يفرض علينا التدخل وحماية البلد من الفوضى.
استمع عليّ إلي، وكنت أراه يشرد فيما لا أعرف وأنا أسهب في الشرح لإقناعه، وأستفيض بسبب ارتباكي وخشيتي من رفضه. فجأة، قطع شروده وحديثي، قال: أفهم من كل هذا اللف والدوران أنك تفكر في الانقلاب واستلام السلطة؟ تلعثمت وأنا أحاول إيجاد وصف آخر لما أقترحُ فعله، أما هو فكان جازماً بأنه لن يتدخل في المعركة، وأضاف مؤكداً أنه لن يرفع البارودة ضدي.
لو يعرف فرحتي لحظتها، فقد كان أقصى ما أتمناه هو وعده بألا يكون ضدي. لقد كانت عبارته بتوقيتها أعذب على أذني من أول مناداة لي بلقب سيدي الرئيس، وهذه سمعتها قبيل الانقلاب عندما زرت قطعة عسكرية بالقرب من “القطيفة” لأطمئن على جاهزيتها، ليلتها حيّاني عدنان دباغ بجدية قائلاً: كل شيء جاهز سيدي الرئيس.
حتى عدنان دباغ بدا واثقاً من نجاحي أكثر مني! رغم ذلك ما كنت لأقارن عدنان بعليّ، وقد عاقبتُ الأول بإبعاده عن السلطة فقط بسبب زواجه في السر من إحدى المغنيات، فمن يخفي عني زواجه قد يخفي ما هو أخطر.
أثبتت الأيام حسن تقديري بترك علي حيدر إلى جانبي، ما اقتضى تجاهلي تماديه في الكثير من الأوقات، فهو كان مخلصاً في كافة المعارك، على امتداد الساحة من حلب إلى لبنان.
لم يزعجني تأثيره على مقاتليه الذين يرون فيه القائد الذي لا قائد سواه، فهذا هو ما يدفعهم إلى القتال بشراسة، والذهاب إلى الموت بحماس شديد، أو بطاعة عمياء.
مَن سواه يضحي بفوج كامل في اشتباك خاسر مع الإسرائيليين في “ضهر البيدر”، ويُسوَّق فعله بطولةً ووطنيةً؟.
هكذا كان الحال أيضاً عندما أفلت أحد ضباطه المئات من عناصره في حقل ألغام زرعته القوات اللبنانية، في الوادي بالقرب من عاليه، ليدفع بمئات من زملائهم المهاجمين خلفهم، وعلى جثثهم.
لا بأس إذاً، وهو يقدِّم هذه الأمثولات، في أن يُنظر إليه كربّ من قبل ضباطه وعناصره. لا بأس حتى في أن يستهين بي أحياناً أمامهم، ليعزز في أذهانهم أنه ربهم الأعلى، رغم أنها ليست حركة لبقة منه أن يدخل إلى ندوة الضباط فجأة، ويطفئ التلفزيون الذي كان يبثّ خطاباً لي، وهو يقول كأنني أتحدث أمامه: اسكت.. اسكت.
كنت، في لقاءاتنا التي راحت تتباعد، أظهِر له معرفتي بكل ذلك، ليدرك أنه غير مسيطر تماماً على وحداته الخاصة، بل لي فيها رجال مخلصون. وهو، لا أظنه كان يقلل من هيبتي لاستهدافي، بقدر ما يفعل ذلك ضمن تنافسه مع رفعت، التنافس الذي كنت أرعاه وأغذّيه، والذي كان ليشبه تنافس شقيقين لدودين، لو لم يكن علي يرى نفسه “باعتزاز شديد” ابن أبيه وعائلته وعشيرته.
هل كان يطمع بالسلطة من بعدي؟.
لا أظنه يفعل، لكن أعتقد أنه كان يشعر بغيظ حقيقي من أي شخص يظهر كوريث لي، بدءاً من رفعت الذي لطالما سوّق لنفسه رئيساً من بعدي. ربما هذا الغيظ، الذي لا يبالي بكبته، هو ما جعله يشبّهني بالخديوي إسماعيل.
لا أدري ما الذي ذهب به إلى حلب حينها، في خريف1987، ليكون ضيف شرف في سهرة جمعت أمين فرع الحزب ومسؤولين آخرين في الحزب والدولة. أمام الجمع، وكأنه قائد معارض مهموم بشؤون البلد، قال: الشعب المعتّر المسكين يموت من الجوع، والخديوي همّه يروح يدشّن منشآت وألعاب دورة المتوسط.
لكم أن تتخيلوا كيف صمت الحاضرون جميعاً، لكم أن تتخيلوا رعبهم من العقاب. نعم.. العقاب؛ فقط لأنهم سمعوا. سأروي لكم حادثة أخرى خارج السياق: مرة أصدر شاعر من عائلة خضور عدداً من مجلة معارضة، طبع منها نسخاً قليلة، ووزعها باليد.
عندما أبلغوني بذلك أمرت بعدم التعرض له والاكتفاء بمعاقبة شركائه، وهكذا اعتُقل لوقت قصير جميع الذين كتبوا، وبعض الذين حصلوا على النسخ، باستثنائه هو العقل المدبّر.
أما علي، فقد سامحته، وسامحت أولئك الذين سمعوه. وكنت أعرف أن ما يغيظه ليست المنشآت والألعاب، ما يغيظه أنني فعلت ذلك كله من أجل ابني ووريثي في الحكم، من أجل باسل.
لو لم يكن المرض قد نال مني لربما كنت استدعيتُه إلى سهرة، وواجهته بما قال، وربما أجاب مبتسماً بأنه متأكد من أن كلامه سيصل إلي، ثم أردف بأنه لا يقصد إهانتي بتشبيهي بالخديوي، وكأنه يقول لي: أين أنت من ذلك الخديوي؟!.
لا أحد، كما فعل، قلل من قيمتي وهيبتي علناً، ونجا بفعلته. أما هو فكنت أسامحه، أولاً لحسابات تتعلق بعائلته، لكن أيضاً لأنني متأكد من محبته لي، ومن أنه لا يدبّر لي سوءاً في السر.
لولا مرضي المبكر كنا على الأرجح سنبقى أصحاباً لوقت أطول، وحينها لن تكون حاضرةً الحسابات المتعلقة بمن يرثني في السلطة.
بموته، حان الوقت لأعترف له بأنه كان محقاً فيما أدى إلى خلافنا وافتراقنا، كان محقاً في أن “هذا الولد لا يركب مع هذه البلد”، سواء قالها عندما كنت أحضّر باسل للرئاسة، أو عندما مات وبدأ إعداد بشار.
ربما يكون صحيحاً أنه طلب، قبل سنوات قليلة في مجلس عزاء، أن يوصلوا لبشار قوله أنني عملت مئة مصيبة للبلد، لكن كلها في كفة والتوريث في كفة. بصراحة: أنا عاتب عليه قليلاً بسبب الشطر الأول من العبارة الأخيرة، الشطر الأول فحسب.