عمر قدور – الناس نيوز ::
بدأ الأمر يصبح جدياً منذ عام 1982، تحديداً بعد ما تسمّونه مجزرة حماة. نعم، أنتم محقّون، كانت مجزرة ولا تسمية أخرى أنسب منها.
أنا أكثر مَن يعرف ما حصل هناك، فقد طلبت صوراً تفصيلية للمدينة بعد شهر من اقتحامها واستباحتها، وطلبت معلومات لا تقل تفصيلاً عمّا حدث خلال ذلك الشهر، عن أدقّ عدد للقتلى الذين أمكن إحصاؤهم، عن أماكن دفنهم والطريقة التي دُفنوا بها.
طلبت حتى صور البلدوزرات التي سوّت الأرض فوق الجثث، الأرض التي ستصبح مأهولة فيما بعد بأبنية وسكان جدد، سكان قد يكون البعض منهم من أُسَر أولئك المدفونين تحت الأساسات.
تغيرت المدينة كثيراً عما قبل، ونجح فيها ما تطلقون عليه اليوم تعبير “الهندسة الاجتماعية”. أيامها، لم يكن ليخطر في بالنا أننا نفعل شيئاً له هذه التسمية التي تبدو لطيفة جداً، الذين كانوا من حولي كانوا يحسنون التصرف، وحتى التفكير أحياناً، بخلاف ما تظنون. لا أذكر جيداً مَن كان صاحب الفكرة، وقد طرح حينها فكرته بحماس، قال إن واحداً من عوامل انتشار تنظيم الإخوان يتمثل في الحارة الشعبية، في الأواصر القوية التي تربط ناسها، وفي نمط العمارة القديم الذي يدعم تلك الأواصر.
الحل هو تدمير تلك الأحياء الشعبية، وتوزيع سكانها على أحياء حديثة، فنتخلص من المجتمع القديم ومشاكله. لم يكن رفعت صاحب الفكرة، رغم أنها نفّذ بغريزته ما يشبهها.
ناقشتُ الفكرة ببطء واهتمام، وبطريقة يُفهم منها أنني موافق على التنفيذ. لم أعطِ موافقة صريحة فقط لأنني أردتُ أولاً رؤية نموذج عن التنفيذ، ولأنني خشيت أن تُقرأ موافقتي إيعازاً بالقصف على نطاق واسع، وفي العديد من المدن. عندما رأيت صور الدمار الآتية من حماة أدركت هول الفكرة، أزعجتني صور الدمار الشنيع، سألتُ: أما من حل آخر يجنّبنا رؤية هذا الدمار، ثم كلفة التخلص منه، ثم إعادة البناء؟ بالطبع لم أشرْ ولو بكلمة واحدة إلى القتل، لم أقل إنه كانت هناك مبالغة فيه.
سيدي، هل تقصد أننا يجب أن نفكر في طريقة للقتل النظيف، الموت بلا دمار؟ أظنني الآن أكتشف تعبير “القتل النظيف”، فوقتها لم نكن “نحن الجيل القديم” نستخدم هذه التعابير. المهم أن أحداً ما التقط ما أريد، وطرح ذلك السؤال. واحد من قادة المخابرات، لا من أولئك الضباط الذين عندما يفكرون تحضر في أذهانهم فقط الرشاشات والدبابات والصواريخ. أيامها لم يكن لدينا براميل متفجرة لأذكرها في السياق، لا تنسوا أنني أتحدث عن الزمن الجميل!
إذاً، ربما هو علي من عاد ليطرح عليّ الأمر، وربما هو أبو وائل. كانت الفكرة أن ننتقل إلى مرحلة جدية من إنتاج السلاح الكيماوي، وبصراحة كنت قد نسيت أصلاً أن لدينا مثل هذا البرنامج. حتى كلمة برنامج كبيرة جداً على تلك الورش الصغيرة التي كانت تُصنَّع فيها مستحضرات بدائية، ذلك كله أشبه بورشة كبيرة نسبياً لصناعة المنظفات.
كنت في عام 1975 قد وقعت على إنشاء المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية، لكنني لم أكترث بها، والآن حانت لحظة الاستفادة منها، فهي “مع معامل الأسمدة” الغطاء الذي نحتاجه لاستيراد مكونات الغازات والسوائل السامة، حتى من دول أوروبية لديها مخابرات قوية.
قلت لنفسي إن هذه الهدية السامة ستكون من أفضل ما أتركه بعدي لوحشي الصغير، ستكون سلاحه المرعب في مواجهة الثائرين عليه. سيثورون، كنت أقولها لنفسي بثقة شديدة، ثقة من يعرف أن لا استمرار إلى الأبد، لكنه يعاند.
المهمة الأصعب لم تكن في صناعة الغازات السامة، هي في تركيبها على الصواريخ، والتحكم في انفجار الصاروخ وانتشار الغاز كما ينبغي. طلبت التركيز على الصواريخ تحديداً، وكانت قناعتي بجدوى الصواريخ تزداد كلما أسقطت صواريخ ستينغر المزيد من الطائرات السوفيتية في أفغانستان. ثم إن الحصول على طائرات ليس يسيراً دائماً من الروس، الحصول على سكود من كوريا أسهل.
سرعان ما انفضح أمر تقدم برنامجنا الكيماوي، وهكذا أتت الفوائد من حيث لا أحتسب. راح الغربيون في لقاءاتنا معهم يطرحون مخاوفهم من تصنيعنا السلاح الكيماوي، ويأتون بتقارير استخباراتهم ليؤكدوا معرفتهم الأكيدة بما نفعل. عندما صار الإنكار صعباً مع الأدلة التي في حوزتهم، رحت أقول إننا سنتخلى عن برنامجنا الكيماوي إذا وقعت إسرائيل على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. واحدة بواحدة، أية فائدة أتت من حيث لا أتوقع! هكذا صار ممكناً الضحك على صغار العقول بردع كيماوي مقابل النووي.
في الاجتماعات مع الغربيين، وعندما يصل الحوار إلى نقطة حاسمة، كنت أقول لهم إن الكيماوي لا يعدّ شيئاً بالمقارنة مع ترسانة إسرائيل النووية. بل كنت أذكّرهم بدعمهم ترسانة إسرائيل التقليدية المتفوقة على الخردة الروسية التي لدينا، أي أنني كنت أطمئنهم، وزيادة في الطمأنة كنت أقول إننا لن نستخدم الكيماوي إلا عندما لا يبقى مفرّ من استخدامه.
قولٌ آخر كنت أتركه حتى نهاية الحديث، التذكير بأننا منذ عام 1968 وقعنا بروتوكول جنيف لعام 1925 الذي يحظر الاستخدام الحربي للغازات الخانقة والسامة. هل هناك رسالة أقوى، عن وجهة الكيماوي، من التذكير بالتوقيع على ذلك البروتوكول؟
إذاً، كما أسلفت، كنت على ثقة بأنني أجهز الغازات السامة هدية لوريثي، لوحشي الصغير الذي سيحكم بعدي، وعلى ثقة من أن لحظة استخدام ذلك المخزون آتية بلا ريب. وكما تعرفون، حدثت تغيرات عديدة بعد منتصف الثمانينات حيث باشرنا المشروع، في رأسها رحيل وحشي البكر المحبب بعد سنوات.
لم يكن وريثي البكر فحسب، بل أيضاً محل ثقتي برجاحة عقله. كنت، بهذا المعنى، أثق في اختياره السليم لاستخدام السلاح عندما يحتاجه، وباختياره السلاح المناسب في التوقيت المناسب، في السياسة وفي الحرب. أما أخوه، وريثي التالي، فلم أثق به يوماً، وربما لهذا لم تكن علاقتنا ودية كما ينبغي لأب وابن.
مع وحشي التالي، صرت متيقناً من أن كل ما سأخلّفه ورائي من أسلحة سيُستخدم، سيُستخدم باعتباطية، عند الحاجة ومن دونها، سيُستخدم بسبب جوعه إلى السلطة والسطوة بعد أن أخفاه طويلاً.
لقد مثّل مضطراً بما يكفي دور الطبيب، المدني الزاهد في الحكم، وحانت لحظة انتقامه.
أكاد أقول إن أكثر ما يتوق إليه هو اختبار سطوته، والبرهان على أنه لا يقل بطشاً وبأساً عني. هل قلت: لا يقل بطشاً وبأساً عني؟! لقد متُّ وأنا متأكد من أنه، في لحظة آتية بلا ريب، سيسعى ليثبت تفوقه على أعتى الحكام الذين قرأ يوماً عنهم أو سمع بهم. مع هذه القناعة لا أدري ما إذا كنت سعيداً أو غير راضٍ، أكثر ما كنت أخشاه أنه ليس جديراً بحمل الإرث الذي سأتركه له، وأنه سيرتكب الحماقات في سبيل إثبات جدارته.
لكنه خالف توقعاتي عندما استخدم هديتي السامة وقصف الغوطة بالسارين، لقد فعل ذلك في توقيت مناسب، ما يجعلني أشكّ في أن يكون تصرف من تلقاء نفسه. لم يحدث الأمر كما تخيلته قبل نحو ثلاثة عقود، لم يُقتل عشرات الآلاف بلا دم ولا خراب وكأن ريحاً قوية أخذتهم ومضت، كانت الحصيلة ضئيلة جداً. لا بأس، لا شيء يحدث كما نتوقع أو نريد تماماً، وقد أكون محظوظاً بأنني جهزت لوريثي قبل سنوات الهدية التي تنقذ حكمه.
هل كان من منجى من استخدام السارين؟ سألت نفسي وأجبت: لا. كيفما قلّبت الأمر وجدته خياراً صائباً، وكائناً من كان وحشي الصغير الذي في الحكم. واحد فقط من بين أبنائي جميعاً ما كان ليفعلها، إنه مجد.