منصور المنصور – الناس نيوز
في الجامعة تعرفت على الكثير من الطلاب، إلا أني اتخذت لنفسي أربعة منهم كأصدقاء، كاظم السامرائي من العراق وصديقته انيتا جانسون، اللذان ارتبطا بعلاقة سامبو، يضاف إليهما فيكتوريا راندكفيست وصديقها جوان أريكسون. كانت لهم اهتمامات ثقافية مشتركة.
إذ إن عائلات هؤلاء الأصدقاء من الشريحة المثقفة، والمهتمين بالحياة الثقافية، سينما ومسرح وفن تشكيلي وقراءة الكتب وخاصة الروايات والشعر.
كانت المرحلة الجامعية بالنسبة لي مرحلة تحول جذرية في حياتي، غيرت اهتماماتي وأصدقائي وطريقة تفكيري, أصبحت علاقتي بالحي وبالمجتمع الصغير واهية, انتهت صداقاتي مع جميع أصدقاء الطفولة والمراهقة,ولم أعد أتواجد هناك إلا نادرا.
كنت أخرج صباحا لأعود في الليل لأنام ثم استيقظ صباحا وهكذا, لقد كانت مرحلة ممتعة, مصدر هذه المتعة هو الحرية التي حصلت عليها، فقد تجاوزت الثامنة عشرة وبهذا أصبحت أمام القانون بالغا راشدا، يمنع على الآخرين التدخل في شؤون حياتي الخاصة.
هذا الشعور، أن القانون أصبح إلى جانبي، منحني قوة نفسية واجتماعية لأجل أن أقف ضد العرف الاجتماعي السائد في مجتمعنا الصغير في الحي.
لذلك شعرت أن عين الرقيب، جدي وأبي وأمي والمجتمع عموما، قد ضعفت إلى حد بعيد,. يضاف إلى ذلك الأصدقاء الأربعة الذين تعرفت عليهم, فلقد كنت محظوظا بهم، لأن اهتماماتهم الثقافية جعلتني أرى الحياة من منظور مختلف، جعلتني أتحرر من أميتي الثقافية.
فقبل معرفتي بهم لم أكن قد قرأت ولو كتابا واحدا أو رواية واحدة, كنت أفهم أن السينما أن اذهب مع صاحبتي لأقبلها في العتمة ونأكل الفوشار ونشاهد أفلام الأكشن الأمريكية الرديئة.
أما المسرح فقد كان مملاً وعبارة عن أشخاص يصرخون فقط. أما معهم فقد تغير كل شيء. ربما كانت تلك الاهتمامات سببا مهما خلف صداقتنا التي استمرت بعد المرحلة الجامعية.
لقد بقينا على تواصل حتى بعد تخرجنا من الجامعة, حصلت على عمل، واستأجرت شقة بعيدة عن الحي، ولم أزر الحي سوى بضع مرات خلال عامين, اقتصرت صداقاتي على الأربعة.
كنا نلتقي كل يوم سبت، لذلك أطلقنا على المجموعة اسم “مجموعة يوم السبت “, أحببت هذه المجموعة وأحببت يوم السبت وكنت أنتظره بشوق, شعرت أنني أنتمي إليهم لأنني أحست أن لي قيمة، لأنهم يصغون الي ويناقشوني ويحترمون وجهة نظري سواء كانوا يتفقون معي أم يختلفون.
كنا نلتقي كمجموعة عند الساعة الخامسة مساء، وقت الشتاء، والسادسة أو السابعة في الربيع والخريف، أما الصيف فلا نلتقي لأن كل منا لديه خطة لقضاء عطلة الصيف مع عائلته في السويد أو خارج السويد.
مع النبيذ والبيرة والطعام تبدأ السهرة بشكل عفوي بأحاديث متفرقة من هنا وهناك، ثم نتحدث عن النشاطات الثقافية الراهنة التي تجري في المدينة وفي السويد عموما.
أحيانا يتفرع الحديث ليتناول حياة الكاتب أو الفنان المعني بهذا الأمر, ثم ينتقل الحديث إلى مناقشة رواية أو كتاب قرأه أحد الأصدقاء خلال الأسبوع المنصرم.
كان كاظم يكتب مسرحيات، بعضها رائع ومدهش، وكانت مسرحياته محط اهتمامنا, كنا نقرأ ما يكتب ونتناقش فيما بيننا, يضاف إلى موهبة الكتابة كان يحب التمثيل، لذلك انضم إلى جمعية تضم الهواة في التمثيل المسرحي.
في أحد أيام الشتاء الباردة جدا، اتصل بي كاظم وقال لي إن هناك مخرجة مسرحية مشهورة في عالم المسرح، تعرف عليها مؤخرا، ويريد أن يدعوها لسهرة السبت، اليوم, توقف قليلا ثم أضاف:
ــ هل لديك مانع من دعوتها؟
قلت بشكل تلقائي:
ــ لا ولماذا أمانع.
تابع كاظم:
ــ فقط لهذه المرة.
قلت:
ــ بالعكس، ربما وجودها يضيف حرارة للجلسة ويجعلنا نتعرف على آراء جديدة.
قال:
ــ شكرا ماهر، كان يجب عليَّ أن أسألكم.
استيقظت في اليوم التالي الساعة الحادية عشرة, كان مزاجي سيئا بسبب مشاكل في العمل, بقيت في السرير حتى الثانية عشرة، ثم نهضت بتكاسل ووقفت أمام النافذة, كان الثلج يهطل بغزارة ودرجة الحرارة كانت سالب خمسة.
يمكن أن أضيف سببا آخر لمزاجي السيء، إضافة إلى مشاكل العمل، الكآبة التي يولدها الشتاء ومن قبله الخريف في السويد, ذهبت إلى الحمام ووضعت نفسي تحت تيار من الماء المعتدل البرودة والحرارة كي أزيل عني كسل النوم.
خرجت إلى المطبخ أقل كآبة. أعددت القهوة وجلست إلى طاولة الطعام بجانب النافذة, اشتهيت أن أدخن سيجارة مع القهوة، ولكن لا أستطيع الخروج إلى البلكونة لأن شعري ما زال رطبا.
فكرت أن أضع طاقية على رأسي لتحميني من برودة الطقس، إلا أن رنين الموبايل بدد الفكرة, كان المتصل أخي عبد الرحمن, عندما سمعت صوته خفت وأدركت على نحو غامض أن مكروهاً حدث في البيت.
فأنا أخاف عندما يتصل عبد الرحمن، لأنه لا يتصل إلا إذا هناك حدث مزعج, قال:
ــ أمك في المشفى, لماذا لم تأت لزيارتها؟
لم استوعب ما قال، لذلك قلت باستنكار وبضيق:
ــ ماذا قلت! أمي في المشفى!؟ ولماذا؟ ماذا حصل لها؟
قال:
ــ انزلقت في الشارع وكُسرت قدمها وهناك رضوض في الركبة.
صحت باستنكار:
ــ كيف ومتى حدث ذلك؟
قال:
ــ اليوم فجرا، أثناء ذهابنا إلى المسجد.
قلت:
ــ أنا قادم.
لبست ثيابي على عجل وخرجت مسرعا, كان الثلج قد تراكم في الطرقات مجددا بعد إزالته البارحة واليوم صباحا, كما أنه تراكم على السيارات المتوقفة.
فتحت سيارتي وأخرجت منها كاشطة مصنوعة من البلاستك، وهي عبارة عن فرشاة من جهة لكنس الثلج الطري ومن الجهة الأخرى عبارة عن مشحاف مخصص لإزالة الجليد الذي يتشكل على البلور,أزلت الثلج والجليد وشغلت السيارة وانطلقت إلى المشفى القريب إلى الحي.
كانت أمي مستلقية على السرير وقد جبّرت رجلها من القدم حتى ما بعد الركبة, احتضنتني وقبلتها وجلست إلى جانبها وسألتها عن صحتها وكيف وقعت, من حسن حظي أنني لم أجد جدي قاسم ولا أبي ولا أحدا من الكبار، أعمامي وأخوالي والجيران, كانت هناك فقط أختي أمينة، أما عبد الرحمن فقد ذهب منذ لحظات، كما قالت أمينة:
ــ لقد ذهب منذ دقائق بعد أن اتصل بك بناء على طلب أمك.
قلت معاتبا:
ــ لولا أمي لما اتصل أحد بي, ألست من عائلتكم؟
ردت أمينة:
ــ لماذا تلومني، وما علاقتي أنا.
بالفعل لماذا أوجه اللوم لها، وهي التي لا تقرر حتى مصيرها في تلك البيئة الذكورية المقرفة, راحت أمي تسألني عن أحوالي وصحتي، ثم وكما العادة حدثتني عن الزواج وضرورة أن أتزوج وأنها رأت أكثر من صبية، في الحي، جميلات جدا، ويتمنين أن يتزوجن مني.
موضوع الزواج في حيّنا، ما يزال شأن العائلة وأحيانا شأن المجتمع، الكل يتدخل ويطلب من الشاب الأعزب أن يتزوج ويحضه على الزواج، لأن الزواج في العرف الاجتماعي والديني هو حماية للشاب من الغواية الجنسية، كي لا ينجرف في ممارسة الرذيلة، مثل إقامة علاقة جنسية مع فتاة أو امرأة خارج علاقة الزواج.
ينظر إلى الزواج كوسيلة لتلبية احتياجات الشاب الجنسية أولا، ولتأسيس عائلة ثانيا, أما في بلاد المهجر تسعى العائلات المسلمة إلى تزويج شبابها وبناتها بسرعة، لأجل ألا يتزوج الشاب من صبية أجنبية، أي من صبية غير مسلمة، لأن ذلك سوف يؤثر على تربية الأبناء, أما البنت المسلمة فحرام عليها أن تتزوج من شاب غير مسلم.
قالت أمي:
ــ يا ماهر، الله يرضى عليك يا ابني، ريحني واتزوج.
ثم التفتت إلى أمينة وقالت:
ــ ما رأيك يا أمينة ببنت أم أسامة؟
ثم التفتت إلي وتابعت دون أن تنتظر رأي أمينة:
ــ بنت مثل القمر بتجنن، ومتدينة وكانت تدرس مع أختك، وهلق صيدلانية وأهلها محترمين.
قالت أمينة:
ــ ازدهار كثير مؤدبة وإنسانة خلوقة.
قلت لأمي:
ــ ماما، لا أحب أن أزوركم لهذا السبب, لا أريد أن أتزوج الآن، وعندما أقرر سوف أفعل.
قالت أمي:
ــ ولكن يا بني أحب أن اطمئن عليك، أنك تزوجت المرأة الصالحة.
قلت بشيء من الحدة:
ــ أمي، إذا استمريت في الحديث في هذا الموضوع فسوف أغادر الآن.
ساد الصمت بيننا, قطعه رنين الموبايل لأمينة, فهمت من كلام أمينة، وهي تتحدث بالموبايل أن أبي سوف يأتي ليقل أمي إلى البيت, لذلك نهضت وودعت أمي، التي أوصتني أن أزورهم، وأفكر بالزواج، وأهتم بنفسي، ولا أقوم بعلاقات غير شرعية.
عدت إلى البيت، وفي المساء ذهبت إلى جلسة يوم السبت. صافحت كاظم وجوان، وعانقت انيتا وفيكتوريا، ثم صافحت الضيفة التي قدمت نفسها:
ــ ماريا كارلسون.
قلت:
ــ ماهر الغازي.
جلسنا جميعا، وتابعت ماريا حديثها, تكلمت عن أعمالها ومشاريعها وأحلامها, ثم دار نقاش عن المسرح بشكل عام وفي السويد بشكل خاص, بقيت صامتا طيلة فترة الجلسة, شعرت أن الجميع كان مرتاحا للسهرة ومجرياتها إلا أنا.
بعد أكثر من ساعة اعتذرت ماريا وقالت إنها مضطرة للمغادرة، وصافحت الجميع بحرارة، وقالت لهم العبارة التي تقال دائما:
ــ سعدت بلقائك.
إلا أنا، بالكاد مدت يدها لي وهي تنظر وتتحدث مع فيكتوريا. لم أرتح لها، بل شعرت أنها مزهوة بنفسها إلى درجة النرجسية.
قالت فيكتوريا بإعجاب:
ــ امرأة رائعة.
وافقها الجميع بينما بقيت صامتا.
قال كاظم مزهوا:
ــ إنها مخرجة مبدعة ولها كلمتها في عالم المسرح في السويد.
أخذ جرعة نبيذ، ثم نظر إلينا فردا فردا لكي يعطي أهمية لما سيقول وتابع:
ــ قرأت إحدى مسرحياتي وأُعجبت بها، وقررت أن تخرجها.
انطلقت صيحات التأييد والاستحسان من قبل الجميع, كان خبرا مفاجئا لنا جميعا, صاحت فيكتوريا:
ــ هل تتحدث بجد؟
هز كاظم رأسه إيجابا وتابع:
ــ نعم، اقترحت عليها أن يكون الممثلون من الهواة، وأن أكون أنا أحد هؤلاء, أعجبتها فكرة الممثلين الهواة، وأحبت أن تخوض تجربة جديدة مع الممثل الهاوي وهذا تحد لا يجربه إلا المخرج الواثق من نفسه.
قالت انيتا:
ــ البارحة أخبرته أنها سوف تخرج المسرحية، لذلك دعاها إلى جلسة يوم السبت.
انتهت جلسة يوم السبت مبكرا تلك المرة, فقد كنت بمزاج سيء، ربما بسبب تلك المدعوة ماريا كارلسون.
بعد شهر ونصف، اتصلت أمي صباحا وطلبت مني أن أرافقها إلى المركز الصحي لان أبي وأخي وأختي في أعمالهم, طلبت إجازة لمدة أربع ساعات. في المركز الصحي، أزالوا الجبس الثقيل، واستبدلوه بمادة خفيفة، لفوها حول القدم والساق فقط، وأعطوها ما يشبه الحذاء وعكازة لكي تمشي.
أوصلتها إلى البيت وجلست معها حتى الساعة الرابعة, خلال تلك الساعات الأربعة حدثتني أمي عن الزواج، كالعادة، وطلبت مني أن أقوم وبرفقتها بزيارة بيت أبو أسامة كي أرى ابنتهم.
رفضت طلبها، وطمأنتها ألا تقلق، لأنني سوف أتزوج ولكن ليس الآن. قالت:
ــ لا أريدك أن تتزوج إلا صبية مسلمة. يا بني اظفر بذات الدين تربت يداك.
لم أفهم جملتها الأخيرة، لذلك قلت:
ــ ماذا تقصدين بقولك اظفر بذات الدين تربت يداك؟
قالت:
ــ هذا حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعو الشاب المسلم أن يتزوج من الصبية المتدينة.
لم أعلق على كلامها، وبقيت صامتا بينما هي راحت تشرح لي مضمون حديث الرسول وأهميته بالنسبة للمجتمع.
عدت إلى البيت الساعة الخامسة, وجدت ورقة صغيرة حمراء ملصوقة على الباب, عرفت أن كاظم قد أتى لزيارتي, لم يتخل عن تلك العادة أو العادات.
يزورني دائما دون أن يتصل وفي أي وقت، وهذا لا يزعجني، بل يسرني, كثيرا ما كان يأتي بعد التاسعة ليلا ويبقى للواحدة أو الثانية، وأحيانا ينام عندي.
عندما لا يجدني يخرج من حقيبته، التي يحملها دائما، ورقة صغيرة، ويكتب عليها ” لقد أتيت، كاظم ” يلصقها على الباب ويغادر, لا يستخدم الموبايل لا قبل أن يأتي ولا بعد أن لا يجدني, ليس بخلا ولكنها عادة يحب أن يمارسها.
أزلت الورقة وفتحت الباب ودخلت, اتصلت به وقلت:
ــ لك يا كاظم اتصل بي، لا لشيء فقط لكيلا تأت ولا تجدني.
قال:
ــ أنا حبيبي، أبقى عراقي، ماحب اتصل لاخذ موعد. وماحب الموبايلات ولا التكنولوجيا, يا ريت لما تجيني وما تلاقيني تترك ورقة عالباب حتى لما أشوفها أشعر بلهفة أنه أحد أتى وسأل عني، أشعر أنني لست وحيدا في هذا الكون.
قلت له:
ــ بكفي فلسفة. تعال أنا في البيت.
خلال ساعة وصل كاظم ومعه كما يقول ” بطل نبيذ ” وكثير من الطعام والفواكه, كان يحمل كيسين مليئين بالمواد الغذائية. قلت له ممازحا:
ــ ما بك يا رجل، لِمَ كل هذا الطعام.
لم يرد. دخل المطبخ ووضع المواد، ثم ذهب إلى الصالون. قال:
ــ أنت سوري، شامي، والشوام لديهم ذوق رفيع في إعداد مائدة الطعام, مارس هوايتك.
قلت له:
ــ كاظم، أنت وأنا سويديان. ولدنا هنا وثقافتنا سويدية، حتى طريقة حياتنا سويدية.
قال:
ــ لا أعتقد, هذه كذبة يمارسها الإعلام ونمارسها نحن أيضا, نحن كما أهلنا، يمضون حياتهم هنا في شقق للإيجار ويبنون بيوتا هناك، في العراق أو سوريا، في الموطن الأصلي.
قد يموتون ويدفنون هنا ولا يسكنون في ذلك البيت الذي بنوه, ثم يأتي الجيل الثاني، ويذهب إلى هناك، بناء على وصية الأهل، يجد البيت قد تخرب بسبب الإهمال، يصلحونه ويسكنون فيه لأيام فقط.
لا يتحملون الإقامة في وطنهم الأصلي، لأنهم اعتادوا على حياة وثقافة أخرى, يشعرون أنهم غرباء في بلدهم، فيضطرون للعودة إلى بلد المهجر بعد أن يبيعوا ذلك البيت الذي بناه الأهل.
نحن لسنا عربا ولا مسلمين ولا سويديين, نحن جيل التعساء، هل سمعت عن جيل التعساء؟
قلت:
ـ لا، هذه أول مرة أسمع عنه.
قال:
ــ وأنا كذلك.
ضحك، بينما ابتسمت، ثم نهضت حملت الكيسين إلى المطبخ، وبدأت أعد طعاما للعشاء. سمعته يتكلم:
ــ مصطلح ” جيل التعساء ” اكتشفته أنا، وهو يشير الينا، نحن الجيل الثاني من المهاجرين الذي ولدوا خارج موطن الأهل, فلا ينتمون إلى موطن أهلهم ولا إلى موطن المهاجر الحالي.
توقف عن الكلام. ثم رأيته يدخل إلى المطبخ، فتح حقيبته، المعلقة إلى كتفه، وبحث بها عن شيء ما ثم أغلقها ورماها جانبا وتابع:
ــ أنا لا أحب النموذج السويدي في الحياة، دقة متناهية في كل شيء، يشعر الإنسان أنه عبارة عن آلة تعمل، روبوت صُنع ليقوم بما نقوم به, التخطيط يبدأ من ساعة الاستيقاظ ولمدة عام, لا أستطيع العيش بهذا الشكل.
قلت:
ــ أحيانا تقول إنك سويدي وأحيانا أخرى تقول إنك عراقي, أحيانا تعترض على كل ما هو شرقي وعراقي وعربي وإسلامي وأحيانا العكس، تصب جام غضبك على السويديين.
قال:
ــ أبدا، أنا شرقي في كل شيء.
قاطعته:
ــ وعلاقتك مع انيتا.
لم يرد. التقط حقيبته من على الأرض، فتحها ودس يده فيها وهو ينظر إلي ثم سحبها وأغلق الحقيبة. تابعت متهكما:
ـــ أعتقد أنه لا يوجد سامبو في العراق. ثم نحن، أنا وأنت نتكلم باللغة السويدية دائما، رغم أننا نتكلم العربية بشكل جيد.
عندما اقتربت منه شممت رائحة كحول قوية، فأدركت أنه قد شرب الكثير، لأن عينيه حمراوان. جلست قبالته، نظرت إلى عينيه وقلت:
ــ كاظم ما بك؟
خرجت تلك الكلمتان ومعهما شحنة عاطفية كبيرة من الود والحنان والتعاطف إلى درجة امتلأت عينا كاظم بالدموع.
ثم تابعت، أشجعه كي يتكلم:
ــ قل ما تريد، تحدث عما يزعجك, نحن أصدقاء.
قال:
ــ اليوم صباحا، استيقظت الساعة التاسعة، وبقيت مستلقيا، أتصفح في كتاب، رواية كنت قد بدأت بقراءتها البارحة, استيقظت انيتا. رفعت جذعها قليلا ونظرت في عيني، ثم ضمتني وقبلتني قبلة سريعة, ضممتها بدوري وبدأت الإثارة تتولد في جسدي، فرحت أقبلها في أنحاء….
توقف عن الكلام. بدا مترددا، يريد أن يتكلم ولا يريد في نفس الوقت. خمنت ما يدور في رأسه من أفكار، قال:
ــ لا، لا يجوز أن أتحدث في هذا الموضوع, إنه موضوع غاية في الخصوصية.
نهض، فتح أحد الكيسين وأخرج ” بطل النبيذ ” وسكب لنفسه كأس وعاد وجلس إلى الطاولة وقال:
ــ أنت تعرف، في الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة هناك خصوصية في علاقاتهما الحميمية، لا يجوز الحديث عنها حتى لأقرب الناس,
لكن يمكن القول إن خلافا حدث بيني وبين انيتا، أو قامت بشيء ما جعلت رغبتي الجنسية تتلاشى فجأة, انقلبت الجلسة أو اللقاء الحميمي إلى خلاف تطور إلى شجار.
ارتفعت أصواتنا وصرخنا في وجه بعضنا البعض، وكدت أن أضربها، إلا أنه وفي اللحظة الأخيرة، استطعت أن أسيطر على غضبي. خرجت من غرفة النوم وأغلقت الباب خلفي واتجهت إلى الصالون.
كنت متوترا جدا وغاضبا جدا, درت في الصالون كالثور الذي يبحث عن التوريرو، المصارع، كي ينتقم منه, ثم عدت إلى غرفة النوم وارتيدت ثيابي على عجل وخرجت.
قلت له:
ــ لا تشرب وأنت مزعوج. انتظر قليلا، سوف أجهز المائدة خلال دقائق.
لم يتوقف عن الشرب، بينما كنت قد انتهيت من إعداد العشاء, جلسنا مقابل بعضنا البعض ورحنا نتحدث, عبر كاظم عن ندمه لأنه ارتبط بانيتا, رغم حبهما لبعضهما البعض، بل هي تحبه وتعتني به أكثر مما هو يفعل، إلا أنه من الخطأ أن ارتبطا بعلاقة سامبو.
قال إن اختلاف الثقافة بينهما هو السبب في الخلافات والمشاكل التي تحصل, فهو يكره النظام والترتيب والمواعيد المسبقة ويعتبر أن الإنسان ليس آلة يتم ضبطها لتنفذ البرنامج الذي أُعد مسبقاً, يرى الإنسان عبارة عن روح لا يمكن وضعها في قالب.
سألته:
ــ لو أنك متزوج من عراقية، ألا تتوقع أن تختلف معها وتتشاجران.
فكر قليلا ثم قال:
ــ لا لا أعتقد.
ثم عاد وغير رأيه:
ــ لا، سوف نختلف بالتأكيد, أمي وأبي كانا وما زالا يختلفان ويتشاجران.
قلت:
ــ إذن القضية ليست الثقافات المختلفة وإنما طبيعة الإنسان، أي إنسان.
قال وقد أصبح كلامه بطيئا ولسانه ثقيلا:
ــ ربما كلامك صحيح، ربما لا, لم أعد أعرف الصح من الخطأ, نحن معشر المهاجرين، ” جيل التعساء ” جيل أضاع كل شيء، فلا هو ينتمي إلى وطن الأهل ولا إلى وطنه الحالي, فلا ثقافة خاصة به ولا حتى لغة ولا تاريخ.
زاغت نظراته، وثقل لسانه أكثر، وتدلى رأسه, لقد شرب الكثير. كان لديه قرار مسبق أن يسكر كي يتخلص من الألم الذي سببه الشجار مع أنيتا. قال:
ــ أنا لا أحب أن اسمع الكلام الفاحش وأنا أمارس الجنس معها, قلت لها ذلك كثيرا، ولكنها لم تتوقف عن قول الكلام البذيء ونحن نمارس الجنس, أنا أفقد الرغبة الجنسية عندما أسمعها تتحدث بهذه الطريقة, ربما بسبب تربيتي الإسلامية المحافظة.
توقف عن الكلام ورفع رأسه بتثاقل ونظر إلي وتابع:
ــ لك أخي أنا إنسان شرقي، محافظ، أغار، نعم أنا أغار على انيتا وهي تحتضن وتقبل الآخرين, غرت جدا وتألمت عندما حدثتني عن علاقاتها السابقة, لم أظهر لها ذلك وتصنعت أن الأمر عادي وأنا أتفهم هذا، ولكن في الحقيقة أنا كنت أتألم.
أوقفته عن الكلام الذي رفض أن يقوله عندما كان صاحيا, شعرت بالخيانة إن أنا تركته يتحدث عن أشياء خاصة لا يريد الحديث عنها عندما يكون صاحيا. قلت:
ــ كاظم، توقف أرجوك, يجب أن تنام.
قال:
ــ لا لا أريد النوم, أتركني أتكلم.
رن موبايله, حاول أن يمسكه ليتكلم إلا أن الموبايل انزلق من يده وسقط على الأرض وبقي يرن, التقطت الموبايل ونظرت إلى الشاشة، رأيت اسم انيتا, توقف الموبايل عن الرنين.
وضعته على الطاولة وأمسكت كاظم من يده وقلت له:
ــ انهض، انهض.
نهض دون أي تردد, قدته إلى غرفة النوم وقلت له:
ــ حاول أن تنام, سوف نتحدث فيما بعد.
ساعدته أن يستلقي، وغطيته باللحاف, خرجت من الغرفة وأغلقت الباب, أعرف مسبقا أن كاظم ينام عندما يسكر.
بعد ربع ساعة رن موبايل كاظم, كانت انيتا المتصلة, ترددت في الرد، إلى أن توقف الموبايل عن الرنين, خمنت أن انيتا سوف تقلق على كاظم الذي لا يرد على مكالماتها، لذلك اتصلت بها من موبايلي:
ــ مرحبا انيتا.
قالت بلهفة:
ــ أهلين ماهر, هل كاظم عندك؟
قلت:
ــ نعم، هو عندي, أنا اتصل بك لكي أقول لك إنه هنا.
قالت معاتبة وبشيء من العصبية:
ـ لماذا لا يرد على اتصالاتي؟ لقد قلقت عليه.
قلت:
ــ هو بخير ولكنه نائم.
قالت باستنكار:
ــ نائم!؟ الآن!؟
قلت ببساطة:
ــ نعم نائم. شعر بالنعاس ونام.
قالت:
ــ هكذا وببساطة, أي إنسان يشعر بالنعاس فينام دون إحساس بالمسؤولية.
قلت:
ـ أي مسؤولية هذه التي تتحدثين عنها!
قالت:
ــ المسؤولية أنه لن يستطع النوم في الليل وسيبقى مستيقظا حتى الصباح ويذهب إلى عمله، وهذا سيؤثر على عمله وعلى صحته, أليست هذه مسؤولية؟
قلت:
ــ نعم، ولكنه شرب كثيرا.
قالت:
ــ أها، هذا هو السر, هل أستطيع أن آتي؟
قلت بالتأكيد:
ــ طبعا تفضلي.
أغلقت الموبايل ورحت أنظف المطبخ وأرتبه, كما أنني رتبت الصالون وعندما دخلت إلى الحمام لكي أنظفه اكتشفت كمية كبيرة من الغسيل, وضعت قسما منه في الغسالة وشغلتها وتابعت تنظيف الحمام.
أتت انيتا بعد ساعة. بعد أن عانقتني قالت:
ــ انظر ماهر إلى الساعة لقد أصبحت العاشرة، ويجب أن نذهب للبيت. يجب أن أوقظ كاظم.
قلت:
ــ اتركيه نائما, أنا أوقظه صباحا لكي يذهب إلى العمل.
قالت:
ــ سوف لن يذهب إن بقي هنا. سوف يستيقظ بعد ساعة ويبقى حتى الصباح، ويقول لك أن لديه صداع ولا يستطع الذهاب.
نظرت إلي مبتسمة وتابعت:
ــ أنا أفهمه جيدا, سوف أدخل وأُوقظه وسوف نتصالح ثم نذهب للبيت.
قلت:
ــ حسناً كما تريدين.
دخلت انيتا غرفة النوم وأغلقت الباب خلفها, إنها محقة في كل ما تقول، كاظم هو كذلك, هي تفهمه جيدا وتحبه جدا, كاظم لديه مزاج الكتاب المتغير والمتقلب.
يمكن أن يبقى مستيقظا ليومين متتاليين، ويمكن أن ينام يوميين متتاليين, هذه المزاجية الحادة لديه أحد أسباب الخلاف بينهما, بعد نصف ساعة خرجا من غرفة النوم. بدا كاظم صاحيا تماما وهو يبتسم، وأنيتا كذلك.
احتضنته وقبلته، ثم التفتت إلي قالت:
ـــ إنه طفلي المدلل.
ضحكنا ثلاثتنا, بينما راح كاظم يلملم أغراضه، قلت:
ــ ما رأيكم بفنجان قهوة عربي؟
قال كاظم:
ــ نعم، أحب هذا.
قالت انيتا:
ــ لا يجوز حبيبي أن نشرب القهوة في هذا الوقت، لن نستطع النوم ولدينا عمل غدا، لقد تأخرنا ويجب أن نذهب.
لفظت كلمة حبيبي بالعربي. هز كاظم كتفيه وهو يقول:
ــ حاولي حبيبتي أن تنسي ولو لدقائق قانونك الذي يسجنك بداخله.
قالت:
ــ لا ليس سجناً، إنه الواجب.
ثم اتجهت اليه وأمسكته من يده وقالت:
ــ باي ماهر، نلتقي قريبا.
قلت:
ــ مع السلامة.
نظر كاظم إلي وهو يهز كتفيه وكأنه طفل يقاد إلى مكان لا يرغبه ولا يحبه ولكنه مجبر, غادرا الشقة وأنا أنظر إلى الساعة, كاظم يرى النظام والقانون سجنا بينما انيتا تراه واجبا, نظرتان مختلفتان تماما تلخصان ثقافتين مختلفتين.
أنهيت الورقة الثالثة بينما الشرطي الذي أشعر أنه يكرهني فتح الباب ووقف بانتظار خروجي للغداء, تباطأت في الخروج وسألته عن ماتيلدا فلم يجب. قلت:
ــ أتمنى ألا تفتح أنت باب غرفتي وألا أراك إطلاقا.
لم يجب فقط أغلق باب الغرفة وذهب إلى الغرفة المجاورة, تابعت سيري إلى صالة المطعم.