الفيلسوف أحمد برقاوي – الناس نيوز :
أجل كنا نناديه يا حكيم، على خلاف زعامات التنظيمات الفلسطينية التي اختارت الأبوة. وقد احتل الحكيم في قلوب الفلسطينيين مكانة الثائر النقي الأخلاقي، وأجمعت على ذلك كل التنظيمات الفلسطينية، بما في ذلك التنظيم الذي انشق عنه بزعامة أبو النوف. لقد أمضيت سنوات بصحبة الحكيم في العقد الأخير من حياته.
رأيته للمرة الأولى في مدرسة السعادة في سوق الغرب في لبنان قبل حرب تشرين 1973 بأيام، حيث كنا في دورة طلابية نستمع لمحاضرين ثوريين.
وتمضي السنون، وصرت ألتقي بالحكيم عندما يزور مجلة الهدف التي تصدر عن الجبهة، وكنت قد أصبحت أحد كتابها الأسبوعيين متعاقداً، في الفترة ما بين 1982-1991. وكانت الهدف والحرية ذاك الزمان تتقاسمان أقلام الكتاب في سوريا من ذوي الميول اليسارية.
” العمل الفكري منفذاً “.
كانت الفترة التي اقتربنا بها من الحكيم في منتصف الثمانينات. فحين بدأ خفوت الكفاح الفلسطيني بعد اجتياح لبنان، ظن الحكيم أن بمقدور العمل الفكري أن يكون منقذاً مما نحن فيه من إحباط، فقرر تأسيس مؤسسة فكرية ضخمة.
وتم اختيار جبال عيبال في نابلس اسماً لها. وهكذا وجدت مؤسسة عيبال بمتابعة دائمة من الحكيم الذي يستبد به المرض وآثار الشلل النصفي تحد من حركته. كان مجلس إدارة عيبال يتألف من: فيصل دراج وسعدالله ونوس وأحمد برقاوي وعبد الرحمن منيف، من خارج الجبهة، وأحمد كنعان (نايف جردات)،وعمر حلمي الغول، وأبو اسطيف ( محمد غضية) ونوح عبد السلام من الجبهة. توالى على رئاسة هذا المجلس أصدقاء من الشعبية من بين الأسماء السابقة الذكر.
ولكي تكون المؤسسة أكثر حرية صار مقرها في قبرص وترأسها هناك عماد الرحايمة (عريب الرنتاوي)، وكان لهذه المؤسسة دار نشر تابعة لها باسم دار كنعان يديرها سعيد البرغوتي.
أدار فيصل دراج “قضايا وشهادات”، وأدرت أنا “الثقافة للجميع”.
ويبدو بأن سوء الإدارة، والمبالغة بالمصروفات والمكافآت والرواتب، كل ذلك، قد قاد لإفلاسها سريعاً، وهذا بدوره قاد الحكيم لإغلاقها. وفشلت التجربة. ثم بعد سنوات من فشل تجربة عيبال، عاد الحكيم مرة أخرى للتفكير بمؤسسة تجيب عن سؤال لماذا فشلنا وكيف ننهض؟.
لم يكن السؤال الذي طرحه الحكيم يخص فلسطين فقط، بل طرحه بوصفه سؤالاً عربياً، فقد ظل الحكيم حتى النهاية محتفظاً بأيديولوجية القوميين العرب. وقرر أن يؤسس مركزاً مهمته الإجابة عن هذين السؤالين. والحق أن مفهوم الهزيمة لم يكن جزءاً من العدة المعجمية لتفكيره. بل على العكس إن فكرة الانتصار، بالنسبة له، آتية لا ريب.
ومن أجل هذا الغرض، تأسس المركز، كنت التقي بالحكيم أسبوعياً أكثر من مرة، وقمت أنا بكتابة أوراق التأسيس كلها. واتخذ الحكيم قراراً بتسمية أحمد برقاوي نائباً لرئيس المركز. وهكذا صرت نائباً للحكيم في مركز الغد، وعين الصديق علي الكردي مديراً متفرغاً للمركز في دمشق.
وقد قال لي الحكيم، وقال لغيري كما أظن، بأن قد أوصى الرفاق في الشعبية أن يستمروا بالإشراف على هذا المركز ودعمه بعد موته.
كان حفل افتتاح المركز مهيباً في فندق صحارى، حيث حضرت آنذاك كل زعامات التنظيمات الفلسطينية، وبعض المسؤولين السوريين. وألقيت الكلمات الداعمة للمركز من الضيوف الرسميين.
وطلب مني الحكيم أن أخصص للمركز وقتاً دورياً للعمل فيه، فاعتذرت بسبب شغلي في الجامعة، وتدريسي في المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية في دمشق. لكنه أصر على ذلك. وتحت إصراره، وبسبب مللي من التدريس في المعهد، رضيت بالاقتراح، وتركت التدريس في المعهد الفرنسي، وبعد شهرين أو ثلاثة لم يحصل المركز على أي دعم من الجهات التي عوّل عليها.
كان يقول لي فيما يتعلق بمركز الغد: الإرادة موجودة، الفكر موجود، المقر موجود، لكن المصاري غير موجودة. وقد رفض الحكيم يومها أن يأخذ من م.ت.ف. ومن أي دولة تمويلاً، ولو أراد لكان له ذلك.
كان يعتقد بأن أصدقاءه من حركة القوميين العرب السابقين، والذين أصبحوا رجال أعمال، قادرين على توفير المال اللازم للمركز. ولم يأخذ بعين الاعتبار تغير الأحوال والرجال. ” لم يكن أهلاً للسياسة في المحيط العربي “ ذهب الحكيم إلى العراق بعد احتلال الكويت، وقبل غزو العراق الأول أيام بوش الأب. وبعد عودته إلى دمشق زرناه ولم أعد أذكر ما إذا كنت وحدي أم لا. وكنا متشوقين لمعرفة ما يجري في العراق. وحدثنا عن لقائه بصدام حسين ومما قاله:
(صدام مطمئن وواثق من قوته، ومبتسماً وقال لي: الأمور يا حكيم ممتازة ولا تأكل هم، العراق قوي جداً.). وحين سألته ما هو مصدر تفاؤله قال لي: أكيد يا دكتور عنده نووي. وقالها ولم يكن يسخر.
كانت ثورية الحكيم طهرانية، وذات ضمير حي وصلب لا يقبل المساومة إطلاقاً، ولهذا لم يكن أهلاً للسياسة في المحيط العربي، حيث يحتاج العمل السياسي إلى خداع ومكر وكذب. لم يكن رجل تكتيك، كانت الأوتوبيا في عقله أقوى من الواقع، والإرادوية أقوى من الواقعية.
من خلال الجلسات الطويلة معه تبين لي بأن الحكيم لم تكن معرفته النظرية واسعة، بل ولَم يكن على دراية بماركس فيلسوفاً. كانت الروح اللينينية عنده أقوى، روح الصراع والثورة. لكنه كان ذا ذهن وقّاد، ومستمعا في كامل التهذيب.
في السنوات الأخيرة، كان كلما التقيته أنا والصديق علي الكردي، يشعر بسعادة غامرة، وكلما مررنا على ذكر ما يدعو إلى التشاؤم أو الحزن راح يبكي. وكان بكاؤه السريع ثمرة تزايد مشاعر الحزن لديه في مثل عمره وما يعانيه من آثار الجلطة الدماغية.
كنت أقول له: لا عليك يا حكيم أنت كنت وستظل ملهماً للأجيال القادمة بنقائك الثوري والأخلاقي.
كان هذا المتصوف الثوري ينطوي على روح الطفل في ابتسامته، والبراءة في سلوكه، والتلقائية في حديثه، والصدق فيما يقوله. ولا شك بأن أخلاقه النبيلة قد انعكست على أفراد التنظيم ونخبته في ذلك الزمان.
لقد أهديته مرة علبة من سيجار الكوهيبا الذي يدخنه، ولقد حصلت عليها من الصديق مأمون غنامة، لقد عبر عن فرحه كطفل أُهدي لعبة.
حين كان يدخل عليه أحد ويخبره بعملية فدائية أو موقف كفاحي في الضفة يحاول القفز من الفرح.
كان متواضعاً بكبرياء، وعاطفياً مع صرامة، من الغريب بأنه لم يكن يذكر أحداً بسوء في حديثه عن الحالة الثورية. ولم يكن يتلفظ أمامي بأي كلمة نابية. وكان يتحدث عن أبي عمار بحميمية كبيرة.
كان يسأل ليعرف، قليل الكلام بعامة، وبخاصة بعد أثر الجلطة الدماغية على ذاكرته ونطقه.
حين يتحدث من موقف سياسي لا يعجبه، أو بالعكس ،كان يعبر عن ذلك بالتشديد البطيء على الكلمات مع تغير شديد في قسمات الوجه.
كان زاهداً رغم منبته الطبقي الميسور، وفلسطين هي محور حياته ومبرر وجوده، ولا يرى العالم إلا من خلال فلسطين التي تسكنه ويسكنها. ابن الجامعة الأمريكية في بيروت هذا لم يتحدث مرة أمامي عن ذكرياته في الجامعة الأمريكية، بل ولا عن حياته في فلسطين. بل لم يكن حديثة مرة حديث ذكريات. إذا كان مشغولاً دائماً بالمستقبل. ولما كان مسكوناً بالتفاؤل الرومانسي كا يعتقد بأن الإخفاق حالة عابرة. سواء كان الإخفاق الفلسطيني أو الإخفاق العربي.
كان هندامه متواضعاً لا أذكر بأني رأيته إلا مرة بربطة عنق.و لي صورة معه وهو يرتديها. سلوكه مع الآخرين كان أرستقراطياً، ويتكلم معهم بتهذيب شديد، وابتسامة ود ووجه سمح.
ما مرة التقيته إلا ويكون سؤاله الأول عن أسرتي وأحوالها، وحين أطمئنه بأنها بخير، يرفع يده الشغالة سعادة بذلك.وتبين بأن الأمر لا يخصني وحدي، بل كان هو كذلك مع جميع من يعملون معه.
كنتُ أتساءل أحياناً، كيف لهذه الشخصية بكل زهدها ولطفها وتهذيبها وضميرها وأخلاقها ذات الروح اليسوعية، قادرة على التعايش مع عالم تعمل فيه مليء بالدسائس والخداع والتآمر دون أن تكون جزءاً منه؟
لم تعد راديكاليته التي ظل محتفظاً بها من تجربته الأولى في العمل الكفاحي صالحة للعمل السياسي في سنيه الأخيرة، فلقد نال التغير على الأرض كل مناحي الفكر والأيديولوجيا والسلوك، فالاجتياح الإسرائيلي للبنان، والتشتت الذي أصاب التنظيمات، وانتقال المنظمة إلى تونس، والعدوان الأمريكي على العراق، واتفاقات أوسلو، وانتهاء الانتفاضة، كل ذلك قد خلق مناخاً مختلفاً جداً عن المناخ الذي ولدت فيه راديكالية جورج حبش، لكن الحكيم رغم كل ذلك ظل محافظاً عليها كأي ثائر رومانسي نقي.