[jnews_post_author ]
يعتبر جيري بروتون في كتابه ” عصر النهضة ” أن هذا العصر يمكن أن يتمثل في لوحة فنية رسمها هانز هولباين وسماها “السفيران”. حيث تلخص اللوحة السمات التي تشير إلى عزيمة البشر الناشئة في العصر الجديد الذي أطلق عليه في أوروبا اسم ” عصر النهضة”. حيث الوعي الفردي الواثق بالذات الذي يحمل التساؤلات عن كل شيء، وحيث تبرز الهوية الشخصية والنزعة الفردية.
أتخيل أن يكون أحد الفنانين العرب قد رسم لوحة لشخصين مماثلين من العصر الذي يتطابق زمنيا مع الأفكار الجديدة التي بدأت تظهر في الوسط العربي. أي منذ منتصف القرن التاسع عشر. كيف يمكن أن تكون ملامح البشر إذا ما كانت اللوحة صادقة فنيا؟ الراجح عندي أن يكونوا منكسرين وخائفين ومترددين إزاء كل ما يجري حولهم، فالسلطنة العثمانية كانت تمر بأسوأ مراحلها حيث نمت النزعة الاستبدادية إلى حدها الأقصى، وقمعت الحريات، وحيث كان الفرد لا يزال يعتبر مجرد آلة ضئيلة في ماكينة الدولة، أو القبيلة، أو العائلة، أو أي وحدة اجتماعية تتحرك على الأرض. والراجح أن يكون الفرد راضيا بهذا الحال، فالعشيرة تضمن له حماية طيبة من عدو محتمل موجود فعلا، أو متخيل.
هل مررنا بعصر نهضة أم لا؟ الحقيقة هي أننا لم نعرف مثل هذا العصر، والتسمية التي يتم تداولها بين معظم المثقفين العرب لا تتحدث عن عصر ، أي لا تشير إلى مرحلة تاريخية مر بها العالم العربي تحققت فيه النهضة بل تسجل محاولات الكتاب والشعراء والمفكرين السعي لنشر أفكار التنوير في الأوساط العربية. ولهذا يختار معظم الذين كتبوا عن تلك المرحلة أن يكتبوا اسم ” النهضة” مجردا من المضاف ” عصر ” .
لا يوجد عصر نهضة عربية في أي وقت، ولكن وجد فكر نهضوي عربي، حاول أن يحرر المجتمع العربي من وعيه التقليدي، ويقدم له خلاصات التنوير الأوروبي، وقد كان فكرا عقلانيا بالفعل، وكان الحوار واحدا من أسسه المتينة التي لم يخالفها تقريبا أي مفكر من بين مفكري تلك المرحلة، حتى أن الكثير من تلك النقاشات لا يزال راهنا وقابلا للاستمرار كأساس لحوارات قادمة. ولكن فكر التنوير العربي ، بكل ما فيه من خصوبة وغنى وحوارات عميقة في كافة المجالات الفكرية والحياتية، لم يتعد دائرة ضيقة من الناس، ولم يساهم في تغيير عقلية الأفراد.
وأين وصلنا اليوم؟ ماذا بوسع الفن أن يسجل في منتجاته للتعبير عن حالنا؟ لم يتغير الكثير من حيث الجوهر، بل إن السنوات العشر الماضية قد أعادت المجتمعات العربية والأفراد فيها إلى حالتهما قبل قرن، وأدى فشل الثورات العربية إلى سيادة العشائر في الريف والمافيات في المدن، لا سيادة مادية فقط، بل سيادة فكرية وأخلاقية ترفض التنوير وفكر التنوير. ولم تنفع السنوات التي شهدت فيها المجتمعات العربية انفتاحا على الحياة الحديثة، فما زلنا نرى من يرتكب جريمة قتل بدعوى الدفاع عن الشرف، وما زلنا نرى من يناصره، ومن يدافع عن جريمته، وما زلنا نرى دولا عربية حديثة تجد لهذا القاتل في قانونها عذرا مخففا يحميه من السجن. وما زلنا نرى أن حزبا ” علمانيا ” يورث قيادة الحزب من الأب إلى الابن مثل أي زعيم عشيرة أو عائلة، بل إن العلمانية نفسها التي عانت طوال القرن من التأجيل المتواصل، تلقى ما يشبه الرفض من قطاعات واسعة كانت أطرافا في الثورات العربية. ثمة من يرفضها جملة وتفصيلا، وثمة من يعلن إمكانية ترحيلها إلى الوقت المناسب، بينما تستطيع الأصولية أن تنتصر وتتمادى بدون مصاعب وعقبات.
فهل الحق على فكر التنوير؟.
يمكن للرسام المتخيل أن يرسم الكواكبي مثلا وهو يقامر بحياته فيكتب ” طبائع الاستبداد” أو يرسم فرنسيس المراش يكتب “غابة الحق” التي يقول جابر عصفور إنها تمثل الولادة الأولى الحقيقية للرواية العربية، أو يرسم فرح أنطون وهو يكتب ” الدين والعلم والمال” كي يدعو إلى التمدن، أو شبلي الشميل وهو يكتب ” الحقيقة” ليثبت نظرية النشوء والارتقاء الداروينية علميا، ولكن لا يمكن أن نرسم لوحة جديدة مختلفة للعربي بعد مرور أكثر من مئة وخمسين عاما على بداية فكر التنوير. لا يزال على حاله، وربما صار الحال أكثر سوءا في ظل هذا الانتشار المريع لحكم الطغاة. لقد خسر المنورون العرب، لا بفعل هجوم الأصولية أو التيارات المعادية للعقل وحسب، بل بفعل توالي أنظمة الاستبداد التي اعتبرت أن التنوير نفسه عقبة في طريق بقائها.
كان فرنسيس المراش قد قال ذات يوم: “كأن الشرق باب للدجى”. يمكن للرسام أن يرسم المنوِرين ولكن من الصعب أن يرسم المنوَرين ( بفتح الواو ) ذلك أن كل القوى الغاشمة تضافرت كي تبقيهم في العتمة.
————————————————————-
ممدوح عزام