ميديا – الناس نيوز ::
أنس أزرق – العربي الجديد – عاش الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا 44 عاما فقط؛ إذ وُلد عام 1632 لأبوين يهوديين نزحا من البرتغال، كما فعل أبناء قومهما بعد حملة التطهير الكاثوليكية، ومات في هولندا عام 1677. كان اليهود وقتها، كما المسلمون، مضطهدين بعد انتهاء الحكم العربي في شبه القارة الإيبيرية، البرتغال وإسبانيا حالياً، فيبدلون دينهم أو يهاجرون إلى العالم الإسلامي أو هولندا التي عرفت التسامح الديني مبكرا، فسمحت لليهود بممارسة شعائرهم. كانت حجة كنيس أمستردام لطرد سبينوزا أنه مهرطق جاحد يرى الطبيعة والله شيئاً واحداً، وأن المادية صفة من صفات الله، وأن أسفار التوراة لم يكتبها موسى وإنما كتبت بيد مؤرخ واحد وأن فيها أخطاء تاريخية، كما استهجن فكرة شعب الله المختار.
هرب سبينوزا من أمستردام بعد محاولة شاب يهودي اغتياله بسكين “تقرباً لله”. سبينوزا نجا، كما حصل بعد قرون لأديبنا الراحل نجيب محفوظ. لم يكن الأذى والطرد لسبينوزا من السلطات الدينية اليهودية فقط، بل إن السلطات الكنسية المسيحية لم تقصر بحقه، فوصفت كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” بأنه “من تأليف يهودي مارق مرتد وبمعونة من الشيطان”.
تلقّى سبينوزا قرار الحرم بنفس راضية، وكتب لاحقاً: “علمتني التجربة أن أكثر صروف الدهر توتراً في حياة الإنسان إنما هي في معظمها تافهة باطلة، واتضح لي أن الأشياء التي كنت أراها مخيفة لا تنطوي في ذاتها لا على الخير ولا على الشر”.
لكن الحرمان الذي أُلقي عليه حرمه الاتصال بعائلته ومن مصدر رزقه في شركة التصدير البحرية التي كان يتولى إدارتها بالنيابة عن عائلته، فرحل إلى قرية رينسبورغ قرب لايدن وعمل بمهنة كانت نادرة حينها وهي صقل العدسات، وقد أدت هذه المهنة التي أحبها لحتفه، إذ مات متأثراً بغبارها بمرض السل.
منزل رينسبورغ
حرم سبينوزا من ميراث أبيه بتواطؤ بين أختيه والسلطات الدينية اليهودية، فقدم له أصدقاؤه المسيحيون هذا المنزل، حيث ألّف سبينوزا الكتاب الوحيد الذي حمل اسمه خلال حياته “مبادئ فلسفة ديكارت”، وملحقا له بعنوان “خواطر ميتافيزيقية”. فيما كل الكتب الأخرى التي ألّفها كانت غفلا من اسمه وذلك خوفا من الكنيس والكنيسة. هنا أيضا بدأ بكتابة مؤلفه رسالة في إصلاح العقل وأكمله في بيته الثاني في لاهاي. يعتبر كتاب “رسالة في اللاهوت والسياسة” الكتاب الأهم لسبينوزا، وقد لقي استنكارا واستهجانا من المحافظين في عصره ووُصف سبينوزا بسببه بـ”اليهودي الجحود”، والكتاب مترجم إلى العربية عام 1971 بقلم الراحل الدكتور حسن حنفي مع مقدمة مسهبة ومراجعة من الراحل الدكتور فؤاد زكريا، وقد لفت نظري أن الدكتور حسن حنفي كتب في تقديمه للطبعة الثانية عام 2011: “رسالة في اللاهوت والسياسة أوسع النصوص الفلسفية العربية انتشارا، لأنها تُعبِّر عن الوضع الحالي للفكر العربي وعمَّا يَصبو إليه من نهضة وتقدُّم. وما زالت قادرةً على المساهمة في التأسيس الفلسفي للربيع العربي الذي انطلق من خِضَمِّ التجربة الحيَّة، وأتون القهر والفقر والتهميش والضياع والبطالة والفساد”.
والكتاب هو الأول من نوعه في نقد الكتب الدينية والنظم السياسية، وهو تطبيق للمنهج العقلي الديكارتي على حقلي اللاهوت والسياسة اللذين استثناهما ديكارت من تطبيق منهجه العقلي كي لا يغضب الدولة والكنيسة.
لقد طبق مفكرنا منهج ديكارت تطبيقا جذريا وخاصة في مجال الدين، فأخضع الكتب المقدسة والعقائد لسلطة العقل وكذلك فعل في مجال السياسة، معتبرا “العقل أفضل شيء في وجودنا ويكون في كماله خيرنا الأقصى”.
لم يكتف سبينوزا بإخضاع حقلي الدين والسياسة للعقل، بل درس العلاقة بينهما: “اللاهوت ليس نظرية في الله فقط، بل ينشأ عنه نظام اجتماعي كذلك، والدين ليس عقائد فحسب بل ينشأ عنه نظام سياسي كذلك”، كما يرى حسن حنفي في مقدمته للكتاب.
يقول هيغل إن سبينوزا “قد سار بالمبدأ الديكارتي حتى آخر نتائجه المنطقية”، وطبعا هيغل من أكبر الفلاسفة المعجبين بسبينوزا حتى قال: “إما أن يكون المرء سبينوزياً أو لا يكون فيلسوفا على الإطلاق”.
في هذا المنزل نجد الكتب التي قرأها مفكرنا وهي 140 كتابا فُقد معظمها، ولكنّ القائمين على المؤسسة استطاعوا إيجادها ووضعها في المتحف.
ولهذا المنزل قصة أوردها الروائي الأميركي إرفين يالوم في روايته الرائعة “مشكلة سبينوزا”، ترجمة خالد جبيلي، حيث آوى هذا المنزل عائلة يهودية خلال الاحتلال النازي لهولندا، والرواية تسرد حياة سبينوزا بالتقاطع مع حياة قائد نازي، ألفريد روزنبرغ، الذي أمر فرقته بمصادرة المنزل ونهب محتويات مكتبة سبينوزا القديمة، لاستغرابه إعجاب مفكرين ألمان كبار كغوته وشيلر وهيغل بيهودي مارق.
تم تحويل هذا المنزل إلى متحف عام 1898، وكانت فيه قائمة أعدها كاتب العدل عند وفاة سبينوزا بالكتب التي يملكها، وتمت مصادرته من قبل النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي المتحف مكونا من غرفتين فقط، حتى تم شراء كامل المنزل عام 2001 من قبل جمعية بيت سبينوزا ولا علاقة للحكومة به.
منزل دينهاخ/لاهاي
عاش سبينوزا هنا آخر سبع سنوات من حياته، حيث مات، ودفن في كنيسة قربه، ولم يكن سبينوزا يملك هذا المنزل ولا المنزل السابق. زرت هذا المنزل برفقة صديقي الدكتور أحمد جاسم الحسين، وفوجئنا بأن الطابق العلوي مغلق أمام الزوار، فسألنا القيّمة على المتحف ماري تيريز، وهي متطوعة منذ سنوات للخدمة في المنزل عن السبب، فأجابت بأن مستأجرا من مالك هذا المنزل يعيش في الطابق العلوي.
هنا اختتم سبينوزا كتابه الأهم “الأخلاق” والذي قضى في تأليفه خمسة عشر عاما، وبعد أن دفعه للمطبعة عدل عن ذلك خوفا من السلطات الدينية، ونشر بعد وفاته بقليل من قبل أصدقائه، واقتصر اسم المؤلف على الحرف الأول من اسم وكنية سبينوزا. تأخرت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية حتى عام 2009.
ترجمه الدكتور جلال الدين سعيد، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة، ونجد ترجمة أخرى له صدرت عام 2020 بقلم فاروق الحميد.
بنى سبينوزا الكتاب، كما يقول مترجمه جلال سعيد، على “منهج الرياضيين في الهندسة، حتى جاء أشبه بكتب علماء الهندسة من كتب الفلاسفة”. لقد تعامل سبينوزا مع حقل الأخلاق بمنهج رياضي هندسي جديد يستطيع به تقديم أفكاره بصورة منطقية تجبر قارئها على الاعتقاد بها من دون معارضة، فيبدأ بمسلّمات وفروض ثم قضايا مستنبطة منها، وهذا ما جعل الكتاب صعب القراءة والفهم، حتى على بعض الفلاسفة أمثال هنري برغسون الذي أعلن عن الصعوبة التي واجهها في قراءة الكتاب.
سعى فيلسوفنا من خلال كتابه لإرشاد الإنسان إلى أخلاق السعادة حيث الميتافيزيقا أساس الأخلاق، وذلك بهدف الوصول “إلى سبل الخلاص في الدنيا قبل الآخرة، بإقناعه أن الغبطة ليست جزءا من الفضيلة وإنما هي الفضيلة نفسها”.
لم يكن كتاب الأخلاق بحثا في علم القيم، بل كما قال الدكتور فؤاد زكريا في كتابه المهم “سبينوزا” إنه “كتاب في جميع مناحي الفلسفة، إذ يخصص الباب الأول للبحث في الله، والثاني في طبيعة النفس وأصلها، والثالث في أصل الانفعالات، والرابع في عبودية الإنسان، والخامس في قوة العقل أو في حرية الإنسان”.
كان الراحل فؤاد زكريا أول مفكر عربي ينتبه لقيمة فلسفة سبينوزا ويصدر مؤلفا عنه عام 1962، وهو يصر في كتابه على تسمية باروخ سبينوزا بندكتوس إسبينوزا، مع الألف بأول اسم سبينوزا، والسبب أن سبينوزا بعد حرمانه الكنسي بادر إلى تغيير اسمه من صيغته اليهودية باروخ إلى مقابله اللاتيني بندكتوس.
في لاهاي، نجد أمام المنزل تمثالا برونزيا لسبينوزا نحته أواخر القرن التاسع عشر النحات الفرنسي الأب ريك هيكسامير، مصورا الفيلسوف جالسا بهدوء متأملا ومستعدا لتدوين ملاحظات وأفكار على ورقة يجملها بيده اليسرى. كما نجد الكثير من مؤلفات سبينوزا فضلا عن كتب عنه وعن فلسفته، ومنها مؤلف يوضح مسيرة مخطوطة كتابه الأهم “الأخلاق” والممنوع حينها، حيث وجدت في مكتبة الفاتيكان.
كن حذراً
في منزلي سبينوزا، تستطيع أن تشتري نسخة من خاتمه الذي كان يوقّع به، واللافت أن شعار خاتمه هو “كن حذراً”. شاعت شهرة سبينوزا في أوروبا وقتها وراسله الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز، مكتشف بعض القوانين الرياضية والحاسبات الميكانيكية، وزاره في منزله وقرأ أبحاثه غير المنشورة وتأثر بها، ولكنه بذل كل جهد ممكن لإخفاء علاقته بسبينوزا، وطمس كل تأثير له على ما كتبه. لم ينل سبينوزا الشهرة والاهتمام الكبير الذي حصل عليه في القرن الثامن عشر، فقد كانت فلسفته سابقة لعصرها، وأصبح الاهتمام بكتبه وترجمتها وشرحها كبيرا، وحاولت كل مدرسة أن تنسب فيلسوفنا لها، بمن فيهم بعض الشراح اليهود الذين كتبوا أن سبينوزا مثال اليهودي الحق وأن لا قيمة لطرده من الكنيس اليهودي. لاحقا صار الاستشهاد بسبينوزا وآرائه مدعاة للفخر، كما صرح ألبرت أينشتاين، الذي زار منزله في رينسبورغ، وكان يجيب عن سؤال هل تؤمن بالله بالجواب عينه كل مرة: “أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يكشف عن نفسه في التناغُم الناموسيّ للموجودات، لا بإله ينشغل بأقدار وأفعال البشر”.
رغم صراحة سبينوزا فقد كان يستعمل اللغة الأقل استفزازا، وقد عدل عن كثير من أفعاله حتى لا يضطر لتكرار المواجهة والمجابهة مع سلطات عصره، ولا سيما بعد حرمانه الكنسي ولاحقا هزيمة الجمهوريين في هولندا، الذي كان نصيرا لهم وكتب في هذا الصدد “بعد دراسة أنظمة الحكم والمقارنة بينها، تبين أن النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقا مع العقل والطبيعة”، منتقدا الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق.
لكن هذا الحذر لم يجعل سبينوزا ينافق السلطات الدينية والدنيوية، فرفض عرضا من جامعة هايدلبرغ حتى لا يفقد استقلاله العلمي، وكتب ردا على عرض الجامعة بأنها ستتيح له التفكير والتعبير الحر المسؤول: “ليس للحرية الفلسفية حدود، فإما أن نفكر بكل حرية، وإما ألا نفكر أبدا”.
وهنا أيضا نذكر أن سبينوزا رفض العرض المالي المقدم إليه من كنيس أمستردام قبل صدور حكم النفي والإبعاد بحقه، بأن يعطوه مالا كثيرا ووظيفة ثابتة مقابل التراجع عن أفكاره وأيضا تنازله عن ميراث والده رغم حكم المحكمة لصالحه.
لا ينكر سبينوزا اهتمامه في بداية حياته بالمال، لكنه انصرف عن هذا الاتجاه حالما أدرك خطورة ذلك على حياته الفكرية، “فقد بدا لأول وهلة أنه ليس من الحكمة أن يتنازل المرء عما هو في متناول يده من أجل شيء لم يكن عنده، إذ كنت أستطيع إدراك الفوائد التي تُجنى من الجاه والثروة، وكنت أعلم أنني سأضطر إلى التخلي عن السعي وراء هذه الغايات إذا ما أردت أن أكرس حياتي جديٍّا للبحث وراء شيء مختلف جديد”. لذا قرر ألا يحتفظ من المال إلا بما يلزم لحفظ الحياة والصحة.
ولكن نستطيع أن نقول إن سبينوزا كان يدرك ظرفه وزمانه، وكان كما وصفه حنفي، “فيلسوفا مقنعا يقول نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر للذكاء أو للتاريخ أو للتطور الطبيعي”.
الوسيلة من جنس الهدف
“إن الوسائل الموصلة للسعادة والفضيلة والحياة الكريمة يجب أن تكون متفقة مع هذه الأهداف ذاتها، فكيف إذاً للإنسان أن يستخدم وسائل مختلفة طبيعتها عن هذه الأهداف؟ إن السعي نحو الثروة والشهرة واللذة مختلف في طبيعته عن السعي نحو السعادة والفضيلة والحياة الكريمة. يجب أن تكون الوسيلة من طبيعة الهدف”. ولا يجد سبينوزا من وسيلة توصل الإنسان إلى هذه الأهداف سوى “العقل المستنير والتفكير القويم”.
سبينوزا عربياً
يرى كثير من الباحثين أن سبينوزا تأثر خلال دراسته الأولى في كنيس أمستردام بما كتبه الفلاسفة اليهود العرب، ولا سيما موسى بن ميمون وبن عزرا وبن جبرائيل وموسى القرطبي، ومن خلالهم تأثر بابن رشد وابن عربي.
ويقارن بعضهم بين فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي وفكرة الله المساوية لفكرة الطبيعة عند سبينوزا.
نجد في متحف مفكرنا كل كتبه مترجمة إلى جميع لغات العالم، فضلا عن كتب وشروحات عن حياة وفلسفة سبينوزا، وللأسف لم نعثر بينها على الترجمات العربية.