أ. غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
يكفي تشغيل أي جهاز راديو، أو ضبط أيّ من محطّاته على الأنترنت في الجزائر، منذ الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، حتى يقع المُستمِع على نفس الأغاني التي تتكرّر على جميع المحطّات، مواكبَةً لِمَا يحدث في غزة، التي غطّت مجرياتها حتى على أحداث وطنية مهمّة؛ كتعيين رئيس حكومة جديد، بل وتَقرّر إلغاء الاحتفالات بيوم الثورة، وهو من التواريخ المهمّة في حياة البلد منذ استقلالها، تضامناً مع الشعب الفلسطيني. سرعان ما سيحسُّ المُستمِع بنوع من الملل، إذ تجترّ محطّات الراديو أغانيَ قديمةً؛ كأغاني اللبناني “مارسيل خليفة” الخالدة، وروائع السيّدة “فيروز”، وأغاني حديثة نسبياً بلا روح، استلهمت كثير منها ألحاناً قديمةً دون قيمة جمالية ولا عمق لنصوصها.
حالة غريبة لا تعيشها الجزائر وحدها! رغم حضور فلسطين المميّز في الوعي الجمعي الجزائري الشعبي والرسمي، بل تنسحب على المشهد العربي الذي لطالما رافقت صناعة الموسيقى أهمّ الأحداث فيه.
من أشهرٍ قليلة صُنع ألبوم ” from gaza with love/من غزة مع حبّي” “التريند”، كما المفاجأة على موقع “تيك توك” أولاً، قبل أن يحقّق أرقام استماعٍ عاليةً على منصّات رقمية مثل “ديزر” و”سبوتيفاي”، الغريب أن الألبوم لم يعرف انتشاراً في العالم العربي، عدا بعض الحفلات في بعض العواصم العربية وعلى رأسها بيروت، رغم إصرار المغني الحامل لجنسيات أربع: الفلسطينية والصربية من جهة والده، والجزائرية والفرنسية من جهة والدته، على الاحتفاء بجذوره ونشأته الغزاوية، في كلمات أغنياته، بل إن “مروان عبد الحميد” الملقّب ب”سانت ليفانت saint levant”، وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، ظهر على أحد أهمّ برامج إحدى القنوات الفرنسية ( le quotidien de yann barthès تي أم سي tmc) مؤدياً الأغنية بلغاتٍ ثلاث؛ الفرنسية العربية والإنجليزية، مرتدياً والجوق المرافق له كوفيات غزاوية، في واقعةٍ أدهشت المتابعين، ظهورٌ سرعان ما حقّق أرقامَ مشاهداتٍ عالية، إذ كسر الشاب العشرينيّ الصور النمطية حول غزة وفلسطين عموماً، رغم عدم خوضه في أمور السياسة، وحصر كلامه في الحديث عن موسيقاه، وما يصنع تفرّدها، بالإضافة إلى التأكيد على انتمائه، وإن تعدّدت مناهله، كما كسر القواعد التي تحكم العمل الإعلامي الغربي منذ سنوات، خوفاً من الاتّهام بمعاداة السامية، في التعاطي مع فلسطين وخصوصاً غزة منذ بداية الحصار المزدوج عليها، وقد وضعه عالَمُ الخوارزميات في ورطة جديدة، ثم في بروز موسيقى بوب تستجيب لمعايير عالمية قادرة على استمالة متابعين من زوايا العالم الأربع، موسيقى تمجّد الفرح وحده، وإن بطّنتها السياسة.
نجاح الفتى الغزاوي المتواصل، والذي يُبرهن يوماً بعد يوم عن ذكائه وجرأته، وهو الذي شاركته الممثلة الإباحية السابقة الأمريكية-اللبنانية “ميّا خليفة”، أداء وكليب أغنية ” nails- أظافر” من فترة قريبة، يدفع إلى التأمّل في حالة الخواء الفني، والموسيقيّ خصوصاً في العالم العربي، والذي يبدو امتداداً وارتداداً لموجات الربيع العربي، التي لفظت على ما يبدو آخر أنفاس الغناء الملتزم، إذ سرعان ما اختفت أصوات مثل “أمل المثلوثي” التونسية عن الرادارات، كما أعلنت فرقة “مشروع ليلى” نهاية مشوارها بعد سلسلة من المضايقات، في حين لا تزال البعض من فرقِ ومغنيي موسيقى “ألترناتيف”، والتي تحاول الفكاك من شراك شركات الموسيقى الكبرى، اقتراحَ بديلٍ عن السائد، مع جنوح نحو النخبوية المادية والفكرية، دون مقدرة حقيقية على التماهي ومواكبة الاهتمامات الجماهيرية، أو فرض خطاب فني عميق ومؤثّر، في ظلّ سيطرة صناعة موسيقى ترفيهية تتحاشى ظاهرياً الخوض في أمور السياسة، وإن حاول نجومٌ عرب كثر التأكيد على استنكارهم لعرس الدم في الشرق الأوسط، دون أن يواكبوا واقعياً الأحداث بحناجرهم، ولا أن يخلّدوا الذكرى فنياً، في قطيعة مع تقاليد عربية خالصة، يبدو أن لانتكاسة الربيع العربي وصدمة الجائحة الكبرى وانعكاساتها الاقتصادية، أثراً جذرياً في صناعة الأولويات، كما في التعاطي مع مختلف القضايا، أو ربما إرساء تقاليد جديدة مناسبة لعالم ما بعد الإغلاق الكبير، الذي لم تتضح ملامحه كاملة بعد، ولا يُدرِكُ الفرد العربي بعد مكانته فيه.