د . سمير التقي – الناس نيوز ::

في العقد الماضي من هذا القرن، تراخت البنية الاستراتيجية الغربية بشكل فادح تحت وهم فرط القوة والقطب العالمي الأوحد. وبدوره، خلق هذا التراخي تساؤلات عميقة لدى دول الإندو – باسيفيك حول مدى جدية، بل ومصداقية الالتزامات الأمريكية تجاه أمن المنطقة.
استتبع ذلك قفزات كبيرة في علاقات وارتباطات العديد من دول جنوب آسيا بالصين، بما في ذلك في المجالات العسكرية الأمنية.
بل، وفي ظل ضعف ونقص وضوح الموقف الأمريكي، اضطرت، وعلى مضض، حتى دول منافسة موضوعياً لدور الصين في الإقليم، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية، لتوسيع هوامش تحملها وتكييفها مع الممارسات التوسعية للصين. وبدى للحظات أن الإقليم يدخل زمن “السلم الصيني” “Pax China”.
لكن، ومنذ السنة الأخيرة لعهد أوباما، بدأت الأوساط الاستراتيجية الأمريكية تتملس مخاطر وتداعيات هذا التراخي. وبدأت تتبلور تدريجياً ملامح مقاربة مختلفة تماماً للوضع في الإندو -باسيفيك.

وبالطبع كان على الولايات المتحدة أن تدفع ثمن تراخيها في الإقليم، وأن تعيد ترميم العديد من العلاقات البينية التي تركت لتهرم بعيداً عن الرعاية المتبادلة المتوقعة من شريك جدي.
بالرغم من أن الرئيس ترامب صعد عبر تويتر هجماته على الصين، واتخذ مواقف متشددة منها، إلا أن المؤسسات الأمريكية الرئيسة كانت تعمل بصمت ومثابرة، لإعادة تأسيس المنظور الاستراتيجي الأمريكي الجديد للإقليم.

فإضافة لمحاولات إعاقة التجارة الدولية في بحر الصين، شكلت محاولات التوسع الصينية لتغيير الأمر الواقع على الأرض وفي البحر، ومحاولات الإكراه الاقتصادي عبر فخ الديون وفخ الصادرات، إحدى الملامح الرئيسة للمخاطر المتنامية لاستتباب “السلام الصيني”.
وحين طالبت أستراليا بالتحقيق الدولي في منشأ كوفيد، بادرت الصين إلى خطوة متغطرسة لمعاقبة أستراليا، فيما وجدته تهديداً لذاك “السلم الصيني” الإقليمي، إذ حاولت معاقبة عدد من الصناعات الأسترالية بعقوبات اقتصادية مهولة، ووضعت رسوماً باهظة على صادرات الشعير والنبيذ وغيرها من المنتجات، فيما بدا خطوة متطرفة لمعاقبة أية دولة في الإقليم تبادر لتحدي الإرادة الصينية، ناهيك عن الرواية الصينية لكوفيد.
توقع الكثير من الاقتصاديين، بمن فيهم بعض الأستراليين، كارثة اقتصادية مع توالي محاولات الإكراه الاقتصادي الصيني. ولكن بدلاً من أن يكون الإكراه الصيني عقاباً، فلقد منح أستراليا المزيد من الثقة على نحو معاكس.
لكن، وبغض النظر عن حقيقة عدم كفاءة العقوبات الصينية وضعف أدواتها، فلقد عوضت أستراليا نقص مدخولها من الصادرات إلى الصين لعام 2020 بسبب الارتفاع المقابل في أسعار خام الحديد، وبالنتيجة لم ينخفض مدخول الإجمالي إلا بمقدار 2٪.
في حين لم يزد الانخفاض عما كان متوقعا بسبب كوفيد. كما ألغت كانبيرا الاتفاقيات بين ولاية فيكتوريا والصين حول مبادرة الحزام والطريق، وقررت مراجعة تأجير حكومة الإقليم الشمالي لميناء داروين لشركة لاندبريدج المملوكة للصين.
ذلك إنه، تحت ضغط العقوبات، تشجعت الشركات الأسترالية على تنويع أسواقها وتعزيز قدراتها التنافسية. وبهذا المعنى، لم تنجح الصين إلا في جعل سوقها أقل أهمية بالنسبة لأستراليا. في حين لم تؤد سياسة الإكراه الصينية إلا إلى تأكيد حقيقة أن أستراليا تعتبر من أهم الأصول الاستراتيجية للولايات المتحدة.
بعد الأشهر الثمانية عشر الماضية من الأزمة، لم يتضح لأستراليا فحسب حقيقة السلوك الصيني المحتمل، بل أصبحت قضية مجابهة سياسة الإكراه والقضم التدريجي لمحيط الصين الإقليمي محور عمليات سياسية ودبلوماسية واستراتيجية.

كان من أهم هذه العمليات اتفاق AUKUS بالطبع، الذي أعاد من جديد وبشكل ملموس تأكيد متانة التحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا. إذ لم يوفر الاتفاق منصات ردع استراتيجي لأستراليا فحسب، بل ضمن مساهمة أستراليا كشريك رئيس كوني للولايات المتحدة في ضمان حرية أمن وسلام التجارة العالمية في بحر الصين ومضيق ملاقا وشرق المحيط الهندي، بعيداً عن الهيمنة الأحادية لأية جهة.
من جهتها استمرت الإدارة الأمريكية في بناء هيكليات التحالفات والتعاون مع الدول الآسيوية. وساعدت هذه الجهود في تحقيق تحولات استراتيجية أساسية في المناخ العام في الإندو-باسيفيك، وذلك بالاستناد إلى عاملين: تصاعد الميول التدخلية الصينية في الإقليم من جهة، وتأثيرات أزمة كوفيد على التجارة البينية فيه.
وفي حين استمرت الصين في توكيد ميولها التوسعية سواء من خلال الجزر الصناعية في بحر الصين أو على الحدود الهندية أو على حدود فيتنام، تطور موقف العديد من الدول في الإندو-باسيفيك لملاقاة محاولات التفرد الصينية. وبدأت، خارج الدائرة الصينية، تتشكل جملة من التحالفات والمجموعات الإقليمية بين الدول ذات الرؤية والمصالح المشتركة.
في هذا السياق شكلت اجتماعات رباعية الإندو-باسيفيك بين قادة الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، المعروفة باسم “الكواد” للحوار الأمني منعطفاً هاماً يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز للعديد من التحولات.
وعلى هامش اجتماعاتها، اعتبر وزير الشؤون الخارجية الهندي، “أن العلاقات الهندية الأمريكية المتغيرة كانت تطوراً حاسماً للغاية في هذا القرن”. وقال “بالتأكيد، بالنسبة لنا، فإن العلاقات الهندية الأمريكية المتغيرة في هذا القرن كانت حقاً تطوراً محدداً للغاية”.
في حين علق الوزير بلينكن إن “ما يلفت النظر” “أن هذه مجموعة من البلدان التي لم تجمعها ما نحن ضده، ولكن ما نحن من أجل. وهذا بكل بساطة هو منطقة حرة ومفتوحة بين الهند والمحيط الهادئ”.

ما هو الغرض من الرباعية؟
حصل الاجتماع الأول لهذه الرباعية بعد تسونامي عام 2004 في منطقة المحيط الهندي، لتنسيق الجهود لمواجهة تسونامي. عام 2007، تحول الاجتماع ليصبح اجتماعاً في إطار حوار رباعي على هامش اجتماع في آسيان. وتبع ذلك في خريف ذات العام مناورة عسكرية جنباً إلى جنب مع سنغافورة.
ثم عادت المنظومة الرباعية لتنتعش في ظل إدارة ترامب. حيث التقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 على مستوى فرق العمل.
ومنذ ذلك الحين بدأت المجموعة ترتقي في مستواها إلى المستوى الوزاري. في ظل إدارة بايدن كانت ثمة تساؤلات حول مستقبل الرباعية بصفتها تجمعاً لدول ذات توجهات ديمقراطية لديها رؤى متقاربة، وإن لم تكن متطابقة، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. بل كانت نوعاً من تحالف الراغبين والقادرين.

الحقيقة ان إدارة بايدن لم تحتضن التجربة فحسب، بل عززتها. حيث جرى اجتماع وزاري قبل أقل من شهر في منتصف فبراير/شباط ثم قمة القادة الأولى من نوعها لقادة الديمقراطيات الأربع.
وبحسب ما يفهم من الأوساط المحيطة بالاجتماع، فلقد اتصف بالمرونة والعملية وتمكن من وضع رؤية مشتركة، للتطور في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. مع التأكيد أن الرباعي سيعمل بالاشتراك مع شركاء آخرين ذوي التفكير المماثل.
حمل اجتماع القادة الأربع معاً للمرة الأولى دلالات خاصة بما عناه من إظهار إرادة الولايات المتحدة تجديد مشاركتها في المجموعة. بل وتثبيت وجودها كشريك تنموي استراتيجي في الإندو-باسيفيك.
كما كان من المهم ولا شك تأكيد الجميع للالتزام والأولوية التي يعطونها لهذا التحالف تجاه الإقليم، وما يعنيه ذلك من توسيع لاحق لدخول شركاء إضافيين ممن يشاركون في ذات القواسم المشتركة.

هذه التصورات لم تكن قابلة حتى للتصديق قبل شهور، حتى أن الهند أو اليابان لم تكونا تستخدمان رسمياً كلمة “رباعية”، وكانتا تشيران إليهما كـ “مشاورات”.
كما كان هناك في السابق بعض التساؤل من احتمال تردد الهند في دفع الرباعية إلى الأمام، حيث ناورت الصين في ضغوطها على الحدود الهندية لإثناء الهند عن السير قدماً في الرباعية وذلك على الرغم من أنها في منتصف مفاوضات حساسة مع الصين لفك الاشتباك.
وبالرغم من أن خصومها اعتبروها مجرد “متجر مفلس”، جسدت مبادرة اللقاح قدرة الرباعية على تجميع نقاط قوتها النسبية، وتقاسم الأعباء.
إذ ستزود الولايات المتحدة هذه الشراكة بالتكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية، وتقوم إلى جانب اليابان، وأستراليا بقدر أقل بتمويل المشروع، كل ذلك بالاستفادة من القدرات التصنيعية المتفوقة لصناعة اللقاحات الهندية بصفتها أكبر منتج للقاحات في العالم، مضافاً لها المقدرات التقنية الأسترالية.

سمحت هذه التوليفة بين نقاط القوة الإيجابية للرباعية بجعل هذا المشروع منفتحاً لتقديم خدماته لمجمل دول الإندو-باسيفيك. إلى جانب الحكومات.
كما سينخرط القطاع الخاص ومراكز البحوث في عمل حثيث من أجل توسيع دوائر التعاون في مجال التقنيات الحرجة والناشئة، والتعاون بشأن المعايير والتكنولوجيات الدولية. كما تم تأسيس مجموعات عمل ستركز على سلاسل التوريد والتغير المناخي. ليس هذا فحسب، بل ستعمل الرباعية بشكل نشيط لخلق آليات تشاورية عند بحث كل قضية تتعلق بالإقليم.
وفي حين أكد المجتمعون انهم ناقشوا أجندات إيجابية، كان ثمة حاضر غائب في هذا الاجتماع، ألا وهو الصين.
وكان اجتماع الرباعية فرصة لتحديث تصوراتهم ونهجهم تجاه الصين. وفي التحليل النهائي، لا شك أنه لولا تصرفات الصين الساعية للهيمنة في منطقة الإندو-باسيفيك لما نشأت هذه المجموعة بشكلها الراهن. إذ أن ما تحاول الرباعية القيام به هو إعادة تشكيل السلوك الصيني، بهدف دفعها للانتقال من منطق الهيمنة إلى منطق الشراكة والتعاون.
وفي آخر المطاف يهدف هذا التعاون لاستيعاب الصين إيجابيا وبشكل بناء، ولكن ضمن منظومة الأمن والسلام الإقليمية متعددة الأقطاب، في الإندو -باسيفيك، كنظام قائم على القواعد في منطقة حرة ومفتوحة وصحية ومزدهرة حيث البلدان تتبع القواعد دون إكراه. بالمقابل، تتضمن هذه السياسة العمل على ردع الصين عما يعتبرونه أفعالاً خبيثة، في محاولاتها لإخضاع بلدان الإقليم.
من جانبها حاولت الصين استهداف كل من الدول الأربع في السنوات القليلة الماضية بطرق مختلفة، لكن المخاوف كانت تتصاعد بسبب سياسات الصين. فالرباعية لم تقم لمعالجة مشكلة سياسة الصين، بل من أجل كل الإقليم.

لقد انتقدت الصين الرباعية، وقد أطلقت عليها اسم الـ “الزمرة الصغيرة”، واتهمتها بزعزعة استقرار المنطقة.
وفي حين تستمر الصين في إجراءاتها لمعاقبة أستراليا وتهديد الحدود الهندية والحديث عن أفول الهند وإفلاس أستراليا. فإن المهمة الصعبة للرباعية لا تتمثل في مجرد ردع الصين، بل وفي فتح باب الحوار معها من أجل إقناعها أن خيار الاستفراد والهيمنة سيكون مستحيلاً، وأن الخيار الوحيد المجدي هو السلام الإقليمي متعدد الأقطاب، والقائم على تعزيز الازدهار الجماعي الحر والديمقراطي لكل المشاركين في الإندو- باسيفيك.


الأكثر شعبية



الشرع يستقبل عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز والوفد السوري…
