محمد برو – الناس نيوز ::
نحن نعيش في زمن طغيان اليأس الذي تعيشه الشعوب العربية، بعيد وأد ربيعها الذي طالما حلمت به، وبعد انطفاء الأمل بأن تلحق بنظيراتها من شعوب الأرض، التي تتمتع بحيز من الحرية والكرامة، وصلت إليه بعد نضالات طويلة وثورات إثر ثورات، واليوم يصدمنا السؤال الذي لا ينفك عن الطنين في آذاننا وأرواحنا، إلى أين المسير وأي مصير ينتظرنا، هل هو قدرنا الذي لا يمكننا الانفكاك عنه؟ سؤال كبير لا يمكن إجابة عنه بحديث مقتضب.
سؤال المصير هو عنوان الكتاب الجديد الذي بين أيدينا اليوم للدكتور برهان غليون، ينبش في مسارات التاريخ عبر قرنين من صراع العرب من أجل السيادة والحرية، ليسبر هل التخلف والعجز قدر العرب والمسلمين؟ وهل هذا القدر يكمن في طبيعتهم وطبيعة الأفكار والدين الذي يحكمهم؟ لقد انتشرت الإسلاموفوبيا بشكل مدهش ولم تعد حكراً على الغرب وحده، بل تعدته لتكون من مكونات الخطاب العربي، الذي ما فتئ يكرر أن الأزمة العالمية تتمحور حول قضية الإرهاب الإسلامي، الذي بات لصيقاً بالفكر الإسلامي وكأنه منتجه أو مخرجه الأهم، متناسين جميع الأزمات التي تحيق بالكوكب، من حروب وانتشار للسلاح النووي وتدهور البيئة العالمية وانتشار الأوبئة وشيوع الجريمة المنظمة بل وسيادتها، وسيل كبير من فشل التنمية وانتشار الفقر والمجاعات التي تصنع صناعة تحت إشراف وسيطرة شركات عالمية عابرة للقارات.
وهكذا نجدنا أمام بحث جاد عن أسباب الإعاقة، التي تعيشها مجتمعاتنا العربية عبر مسارين، الأول هو دور الدول الكبرى التي تعمل بمنهجية ثابته لتكريس التبعية والتخلف، وتقسم العالم لقطب متقدم متحكم مهيمن بالمعنى التقني والعلمي والأمني والعسكري، وقطب طرفي تابع، يسمح له بامتلاك ما تمنحه مجموعة القطب الأول وحسب، وهو ما يبقيه في دائرة التبعية والاستهلاك، وان أي محاولة للخروج من دائرة القطب الثاني، سرعان ما تواجه بعنف لا هوادة فيه، فهو أشبه بتمرد العبيد على أسيادهم، أو بتمرد البشر على آلهتهم.
المسار الثاني هو دور النخب الحاكمة التي عجزت بعد إنجاز عملية الاستقلال الجغرافي، عن بناء دولة العدالة والحرية التي تشكل حجر الأساس للتنمية والتحديث، فتحولت إلى كيانات عسكرية وأمنية، توظف طاقات المجتمع كافة لغرض رئيس هو الحفاظ على السلطة، ولم يتأتَ هذا إلا من خلال تبعية مباشرة أو غير مباشرة لدول كبرى تكفل لها الحماية من شعوبها.
يشكل الكتاب هدماً للأساطير الثقافية الحداثية، بكشفه عن المجريات الخفية والحقيقية في تشكل العالم الحديث على ما هو عليه الآن، فقد شكلت هذه الأساطير تغطية زائفة لمسؤولية الغرب كقوة مركزية، ومسؤولية النخب الثقافية والاجتماعية الحاكمة في المجتمعات المتخلفة، وهدم خرافات الحرية والمساواة والعدالة والدولة، مبينا دور القهر والعسف والعنصرية والإقصاء وسيطرة وسائل القهر، وإدارة الحروب ونهب الأمم، التي تخضع لوصايات أربع، وصاية الغرب على النظام الدولي وأطرافه المختلفة، وصاية النخب الحاكمة على شعوبها وتبرير النظم الاستثنائية، وصاية المثقفين على الجمهور، وإقصائه بذريعة جهله أو تعصبه، وحرمانه من حرياته الأساسية في الرأي والاعتقاد، والوصاية الروحية للرموز الدينية على ضمائر المؤمنين.
في سؤاله (هل قاوم العرب والمسلمون الحداثة) يرصد تحولات عرضت لمشهد التعاطي مع الحداثة في بلاد العرب والمسلمين، والتي بدأت بولادة المثقف الحديث، يستشهد المؤلف بكتاب المصلح التونسي أحمد بن أبي الضياف “إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان” حين يقول عن الأوربيين “إن القوم سبقونا إلى الحضارة بأحقاب من السنين حتى تخلقوا بها وصارت من طباعهم. وبيننا وبينهم بون بائن. ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه”.
تلا ذلك بروز دور “المصلح الديني” الذي يمثل فيه جمال الدين الأفغاني الظاهرة الأجلى، وتلاه محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم كثيرون من دعاة الإصلاح الذين دأبوا على فض الاشتباك بين العلم وتفسيرات تقليدية للنصوص المقدسة، وتنقية الإسلام الأولي من الشوائب والزوائد التي لحقت به عبر سنين طوال، لم تكن غايتهم بالغالب هو الدفاع عن المقولات الدينية بقدر اهتمامهم إخراج الشعوب الإسلامية من حالة التأخر الحضاري، ودرء مخاطر الاحتلال الأجنبي وأن حافزهم الرئيس كان سياسياً اجتماعياً، وربما كان منجزهم الأهم تحرير الدين من قدسية مقولات الأقدمين والأوصياء، وفتح باب الاجتهاد من جديد.
لكن مع دخول الاحتلال بلاد العرب والمسلمين، حصل ما كان يتخوف منه الإصلاحيون وهو الانتقال قسرياً من المرحلة الليبرالية إلى المرحلة الراديكالية، حيث باتت الأولوية مواجهة المستعمر، وتأجيل مهام الإصلاح ومتطلبات التنمية لما بعد التحرر وهكذا كان، فقد اجتمعت الآراء على اختلاف اتجاهات أصحابها على تقديم مهمة التحرر من الاستعمار على أي مهمة أخرى، لكن هذا الانتقال لم يتح الفرصة فيما بعد لعودة الإصلاحيين إلى لعب دورهم المأمول، لأن من قادوا عملية التحرر ركنوا إلى السلطة ومنطق القوة ولم يعد بإمكانهم التخلي عنها.
لذا كان لا بد من إعادة النظر في فهم هذه التحولات، وفي مقدمتها صعود التيارات الإسلامية السياسية، وما رافقها من نزوع إلى التطرف، فهي ليست بمعزل عن الأزمة التاريخية العميقة، الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، التي غرقت في دواماتها المجتمعات العربية، بعد إخفاقها في مسيرتها إلى التحديث الذي طمحت إليه.
وليس صعود الأصولية الإسلامية تعبيراً عن التمسك بالماضي والتصلب على أمجاده، كما يكرر هذا كثير من الباحثين استسهالا دون الحفر بروية في تلك الظاهرة، بل هو بالعكس تماماً فصعود الأصولية يمثل قطعاً مع الإسلام الكلاسيكي أو التقليدي، حيث تمثل الحركات الأصولية حركات احتجاج وتمرد اجتماعي يوظف فيها الدين كرأسمال سياسي يسهل الحشد له في ميدان صراع على السلطة الدنيوية الفجة.
لقد عجزت الحداثة في ملء الفراغ الذي خلفه تفكك البنى الاجتماعية القديمة، وليس التخلف أو التقدم قدراً محفوراً في عقيدة أو ديانة بعينها، بل ينبغي النظر إليه بصفته ظاهرة تاريخية ترتبط بشروط جيوسياسية وثقافية، وخيارات استراتيجية لقوى مهيمنة تعمل بثبات لإعاقة هذا التوجه، والإصرار على ترك أمم بكاملها أسيرة الاستهلاك والتبعية، وما المشهد الدولي الذي نراه من دعم عميق للديكتاتوريات والأنظمة القمعية “بالرغم من الضجيج الإعلامي المندد” إلا تجسيداً مباشراً لهذه الخيارات الاستراتيجية للقوى الغربية المهيمنة.
إنه يعيد النظر في الوقائع التي أنتجت هذا التخلف في المشرق الكسيح كما يصفه، بدءاً من سعي الدول الكبرى “بريطانيا وروسيا وفرنسا” لتفكيك السلطنة العثمانية، وتقاسم النفوذ والموارد فيها، وتكريس التبعية والوصاية على شعوبها، وإعادة تشكيلها على نحو يخدم مصالح الأسياد، وفرض إعاقة حقيقية على كل محاولة للخروج من هذه السيطرة، أو بناء اقتصاد وطني يخرجه من طور التبعية للغرب، ولو أدى ذلك لتدخل عسكري أو إشعال حروب محلية.
وهذا ما ينقلنا لتحليل علاقات السيطرة والهيمنة وتكريس التبعية، لدراسة طبيعة الأيديولوجيا العنصرية وتجلياتها المختلفة، ودورها في عزل النخب المحلية عن شعوبها ومجتمعاتها، لتكريس التخلف الذي يشكل شرطاً لازماً للتبعية.
يفصل الكتاب في نقد الأيديولوجيا التي تعيق التفاهم والحوار بين الشرائح الاجتماعية، تلك الأفكار التي سيطرت على قطاعات من نخبنا الثقافية والاجتماعية، والتي تدفع من دون وعي إلى إعطاء الصدقية لطروحات الإسلاموفوبيا العنصرية إن لم يكن إلى المساهمة النشطة فيها.
يختم الكتاب فصله الأخير “عودة العرب إلى التاريخ” بالإجابة على السؤال الجوهري، هل لا يزال التقدم ممكناً؟ مؤكداً إمكانيته بشروط أربع.
الأول: أن ندرك أن الحداثة بما تعنيه من التقدم الاجتماعي (الكفاية المادية)، والسياسي (الحكم الديمقراطي)، والثقافي (ثقافة حرية الرأي والحوار والاحترام المتبادل) هي المعركة التاريخية الرئيسة لجميع الشعوب
الثاني: إعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية
الثالث: المصالحة مع الذات والتخفف من جميع عقد الدونية التي كرستها التبعية لقرون، من خلال ثلاث نقاط، الأولى التحرر من عقدة الاستثناء التي أراد علماء وباحثون ومفكرون عقلانيون جدا إلباسنا إياها، ليميزونا من بقية البشر ويجعلوا منا “أعجوبة” العالم والعصر، غير قادرين على التطور واللحاق بالركب ولا حتى التفاهم مع أحد، الثانية أن نقبل ماضينا وتراثنا ونحمل مسؤوليتهما، بكل ما فيهما من إنجازات وإخفاقات، ولا نتبرأ منهما كما يريد البعض لنا أن نفعل ليجردنا من أرصدتنا وأوراق اعتمادنا التاريخية، ويحولنا إلى أيتام التاريخ، الثالثة أن يعي العرب كونيتهم، أي ماهيتهم الإنسانية، ويتحملوا مسؤوليتهم العالمية
الرابع: حل عقدة الغرب. ليس الغرب قوة أجنبية مثل الصين أو الهند أو كندا أو اليابان فحسب، بل هو قوة استثنائية تتحكم في أجندة السياسة الدولية منذ ثلاث قرون، وهي التي كانت وراء تشكيل العالم الحديث كما هو عليه اليوم.
في النهاية فإن التاريخ حصيلة تقاطع عوامل بشرية وبيئية ومصادفات وطوارئ يصعب ضبطها والتحكم فيها، لكن الدور الإنساني يتعلق بشكل كبير في معرفتهم الصحيحة بهذه العوامل وتطويرهم لأدوات إبداعية تمكنهم من مواجهة التحديات الطبيعية والتاريخية التي تقيد إرادتهم.
يمثل الكتاب بتفاصيله المتشعبة جردة حساب غنية لقرنين من التاريخ العربي، والأفكار والقوى التي ساهمت في تشكيله على ما هو عليه الآن، وربما كرست شلله، كما يفند الكثير من الاتجاهات الفكرية، التي نحت باللائمة على الإسلام أو الفكر الإسلامي، الذي يمثل المرجعية الثقافية والعمق الحضاري والتاريخي لمجتمعاتنا العربية.
هو يفتح الباب على مصراعيه لإعادة القراءة للوقائع، التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه دون الارتهان المسبق لنظريات كررناها تأثراً بإيماءات لمدارس غربية لا يمكن وصفها بالبراءة أبداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
سؤال المصير د. برهان غليون
صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2023 .