د . ممدوح حمادة – الناس نيوز :
الطريق الأسفلتي في أسفل الوادي، رغم رومانسية المنظر الذي يحيط به من الطرفين، إلا أنه كان أقل الطرق أمانا في العالم في ذلك الوقت، فعلى القمم التي تعلو السفحين الصخريين المحيطين به كانت تتمركز فصائل وكتائب وفيالق الأعداء من حوالي مئة طرف من الأطراف، التي تشكل منها تحالفان يكاد يبدو للمراقب الحيادي أنه لديهما هدف وحيد في هذه الحرب هو التخلص من الذخيرة المتراكمة في مستودعاتهما، ففي الليل عندما كان أحد الحراس أو أحد عناصر الاستطلاع والمراقبة المتمترسين في إحدى القمم على أحد الطرفين، يشعر بالملل أو يتسرب الخوف إلى نفسه، كان يرمي علبة سردين فارغة تكفي قرقعتها لكي تلعلع كافة أنواع الرشاشات ومدافع الدبابات والعربات المدرعة مطرزة السفحين المتقابلين بشكل يصعب معه القول إن ذرة من التراب لم تتحرك من مكانها في هذا النوع من مشاهد المسرحية الدموية التي تجري أحداثها في البلد.
على هذا السفح كنا نتمركز نحن، على يميننا فصيلة من رفاقنا في الجبهة الشعبية وعلى يسارنا مجموعة استطلاع من رفاقنا في الجبهة الديمقراطية، وأبعد قليلا مفرزة من حلفائنا في الجبهة الوطنية، قربهم فصيلة من رفاقنا في تيار الوحدة الوطنية وفي القمة الثالثة على اليمين صخرة يجلس خلفها دائما عنصران من حزب الشعب معهما بندقيتان آليتان من طراز كلاشينكوف واحدة منهما أخمص خشبي والأخرى أخمص طي، هذان العنصران لا يشاركان في أعراس الرصاص نهائيا بسبب نقص الذخيرة، وتسري شائعات أنهما لا ينتميان إلى حزب الشعب، حيث إن حزب الشعب كما يشاع أيضا ليس فيه أعضاء غير المكتب السياسي واللجنة المركزية وأفراد أسرهم، وأن هذين العنصرين يتواجدان هنا بأجر شهري معتبر والهدف من وجودهما فقط هو تسجيل موقف للحزب من أجل المفاوضات في حال حصولها، ولكن كما قلت تبقى هذه شائعات لست متأكدا من مدى صحتها، قرب جماعة حزب الشعب كانت تتمركز ثلاث دبابات لم أعد أذكر لأي جيش من الجيوش الثلاثة التي كانت في صفنا في ذلك الوقت كانت تعود، قبل أن تنتقل اثنتان منها إلى صفوف الأعداء المرابطين على السفح المقابل، الذين كانوا بدورهم يتشكلون من فصائل كثيرة لا تقل عن الفصائل التي نتشكل منها وأسماؤها ليست أقل تعبيرا من أسماء فصائلنا، أو كما كان يقول أبو الليل وهو مقاتل عجوز أسنانه سوداء وصفراء بسبب التدخين، شارك في جميع المعارك التي خاضها فصيلنا الذي انتسب إليه منذ تأسيسه، حيث كان يقول موضحا الفرق بيننا وبينهم (نحنا على حليب وهمي على شكلاطة) ويبتسم ابتسامة رمادية تجسد كل خيباته.
الطريق في أسفل الوادي كان مهجورا تقريبا ولكن قبيل الفجر يقوم بعض الرعاة من سكان المنطقة بالعبور من بعض الممرات هناك مستغلين الستار الذي يلقي به الظلام أو الضباب أحيانا على أسفل الوادي، لم نكن نراهم أبدا، كنا فقط نسمع أجراس أغنامهم، وكان هناك اتفاق ضمني من الطرفين على عدم إيذائهم، ولكن لم يكن هناك أي ضمانة بأنهم إذا كشفوا أنفسهم لن يشكلوا هدفا مغريا لقناص ما، هم أو أغنامهم، فالقنص كما دلت التجربة يتحول مع الزمن إلى ما يشبه الإدمان لدى القناص، وأكد لي ذلك سامر الذي أعيش وإياه في غرفة في الطابق العاشر في هذا المشفى في إحدى العواصم الأجنبية، حيث كان يقف دائما على النافذة يتأمل الطرق الممتدة تحت نافذة الغرفة، وكان دائما يبدي إعجابه بالموقع الممتاز للمشفى، حيث إن قناصا واحدا في هذا المكان يمكنه أن يغلق نصف البلد، ثم شرح لي في حواراتنا اللاحقة أن هدفه من الوقوف على النافذة هو انتقاء الأهداف للقنص، العادة التي لم يتمكن من التخلص منها بعد انتهاء الحرب، وأنه أحيانا يشعر بما يشبه العطش لقناصة بين يديه ، خاصة عندما يكون على النافذة.
ومن بين هواياتنا في ذلك الوقت للقضاء على الملل هو تقليب موجة أجهزة اللاسلكي لكي نلتقط مكالمات الفصائل المنضوية في التحالف المعادي، حيث كنا نتبادل وإياهم أقذع الشتائم التي لم تنج منها الأمهات والأخوات على الأخص، ونعدهم ويعدوننا بموت زؤام، وأنا أتعفف هنا بعد انتهاء الحرب عن التفوه بمثل تلك البذاءات التي كانت طقسا من طقوس المعركة، داوود قائد فصيلتنا كان شديد الملاحظة، وانتبه أكثر من مرة إلى أن إشارة اللاسلكي لواحد من الفصائل المعادية الذين كنا نتبادل معهم الشتائم، كانت تصبح أكثر وضوحا بالتزامن مع مرور أحد الرعاة اسفل الوادي، مما دفعه وهو المستنتج والمستنبط الحاذق بأن هذا الراعي تحديدا ليس راعيا، وإنما هو عنصر استطلاع تابع لفصيل معاد، ولم يكتف داوود بالاستنباط والاستنتاج بل تابع مقترحا، لماذا لا ننصب له كمينا ونختطفه فنحصل منه على معلومات قد تهمنا، ويتمكن الرفاق في القيادة من إجراء صفقة تبادل بعد ذلك، ورغم أن الاقتراح كان جنونيا بسبب صعوبة النزول إلى أسفل الوادي وربما استحالة الخروج منه إلا أننا جميعا وافقنا على الفكرة، فأبشع تهمة توجه للإنسان في زمن الحرب هي أنه جبان، وكلنا كنا على ثقة بأن داوود لم يكن ليتوانى عن توجيه هذه التهمة إلى أي شخص يعترض على اقتراحه، لم يكن داوود غبيا، فهو لم يقترح أن نقوم على الفور بنصب الكمين، بل اقترح أن نجري (بروفا) في البداية، لكي نتأكد من واقعية الفكرة، ومن ثم نقوم باختطافه في يوم لاحق، وهذا ما كان.
أرسل داوود مراسلا إلى قيادة فصيلتنا في المؤخرة لكي يؤمنوا لنا مخدرا نضعه على قماشة نضعها على وجه الراعي المشبوه عندما نمسك به، من أجل عدم إثارة الضجيج، انطلق المراسل باتجاه القيادة في الساعة العاشرة مساء على وجه التقريب، وكان يحمل الخطة التي كتبها دواوود للعملية والتي يطلب معها الموافقة على القيام بالعملية، بينما بدأنا نحن بتنفيذ البروفا في الساعة الثانية عشرة ليلا، حيث كانت تقتضي الخطة أن ننطلق في الساعة الثانية عشرة ونبقى المدة المفترضة لمرور الراعي وإلقاء القبض عليه ثم العودة إلى الأعلى قبل أن يرسل الفجر خيوطه، وبحسب خطة داوود فإن فترة نزولنا كان يفترض أن تستغرق ساعة، وعملية القبض على الراعي عشر دقائق كحد أقصى و مدة العودة إلى الموقع ساعة ونصف، وهذا ما ثبت فشله منذ تنفيذ البند الأول، حيث تمكنّا بعد جهد مضنٍ تعرضت خلاله أرجل معظمنا لالتواءات أصبح عدد منا بعدها يعرج، تمكنّا من الوصول في حوالي الساعة الثالثة والنصف، وهذا يعني أن صعودنا وعودتنا إلى الموقع ستستغرق في أحسن الأحوال أربع إلى خمس ساعات، وهذا بدوره يعني أننا في الخامسة صباحا سنكون هدفا سهلا لكل من يرغب بتجربة دقته في التصويب أو براعته في الرمي الغريزي، وهذا ما اكتشفه داوود قبل أي شخص آخر، وتوصلنا إلى نتيجة أنه لا بد لنا من الاختفاء حتى يحل ظلام الليلة المقبلة فننسحب بأمان وننسى أمر الراعي، واقترح داوود أن نختفي في عبّارة كانت تحت الطريق الأسفلتي هناك، وبطبيعة الحال طلب منا داوود عدم التدخين أو إصدار أي صوت وقال مداعبا:
- حتى إذا واحدكم بده يضرط.. يعمل جهده يطالعه فسوة.
احتضن كل بندقيته وتمددنا جميعا في العبارة، وبسبب البرد الذي تسرب من الأرض الرطبة التي كانت بحالة ما بعد الوحل بقليل فقد أصيب بعضنا بالمغص، وكنت أشاهد كيف كانت عضلات وجه الشفيع أحمد تتلوى وهو يحاول كتم الألم المتولد بسبب تشنج أمعائه، وقبيل بزوغ الفجر بقليل انبعثت رائحة تدل أن أحدهم قد ترك الحرية لأمعائه لكي تتخذ القرار الذي تراه مناسبا لها، وقد تبين بعد ذلك أن تلك الأمعاء هي أمعاء داوود شخصيا، أما أنا فقد تمكنت من الصمود أمام البرد لأنني كنت أرتدي حزاما صوفيا على بطني ساعدني في الصمود أمام البرد ولكنه لم يساعدني في الصمود أمام الخوف والملل ورائحة داوود، ولذلك فعندما أرسل الفجر أول خيوطه وشاهدت الحصى التي جمعتها السيول عند فوهة العبارة أخذت أتسلى بعد الحصى، ومع تعالي أصوات الأجراس المعلقة في رقاب الأغنام واقترابها أخذت اشعر بمغص وأخشى أن يحدث معي ما حدث مع داوود، إلا أن المغص اختفى عندما وقعت عيني على سلك كهربائي ينبثق من بين الحصى ويمتد خلف ظهري على جدار العبارة، تسرب القلق إلى نفسي وتابعت السلك لأكتشف أنه موصول إلى كتلة في سقف العبارة، ولم أكن بحاجة إلى تفكير عميق لكي أعرف ما هذا الشيء، وأنا الذي فعلت هذا عشرات المرات، لسنا وحدنا من يريد رأس ذلك الراعي، وأن هذه العبوة ستنفجر عند وصوله إلى فوق العبارة التي يدل الثغاء أنه فوقها الآن، ولذلك لم يكن هناك مجال للتفكير فصرخت وأنا أخرج من العبارة - عبوة يا شباب.. طلعوا.
ولكن العبوة كانت أسرع مني، ولم يدرك الشباب الذين انطبقت عليهم العبّارة وتحولت إلى قبر لهم، ما الذي حصل، وأنا أيضا مثلهم لم يسعف الوقت ذاكرتي لكي تلتقط صورا بعد الانفجار، فقد فقدت الوعي ولم أستيقظ إلا في المشفى حيث كان الجراحون يبذلون جهودهم لكي لا تبتر ساقي، وقد علمت أن الذي أسعفني إلى المشفى هو نفسه الراعي الذي كنا ننوي نحن اختطافه والتيار الشعبي الديمقراطي تفجيره، وهو من قرية جعل قدرها السيئ موقعها الجغرافي في وسط ساحة المعركة.
نعت حركتنا الشهداء الثلاثة، وأصدرت بالاشتراك مع التيار الشعبي الديمقراطي بيانا تبنت فيه العملية ذكرتا فيه أنهما دمرتا دورية استطلاع للعدو، أما أنا، فقد أرسلتني الحركة إلى هذه الدولة الأجنبية لمتابعة العلاج، وها أنا برجلين مبتورتين من عند الركبة ممدد على سرير وثير بانتظار طرفين اصطناعيين، وسامر يقف على النافذة باحثاً عن جمجمة يفجرها برصاصة من قناصته التي يشعر بعطش شديد للإمساك بها بيديه ومشاهدة الهياكل المتحركة في الشارع عبر منظارها.
ممدوح حمادة