نشمي عربي – الناس نيوز ::
لا أعرف السيد رامي الشاعر، ولم أتواصل معه يوماً، ولم أحاول أن أفكك لغزاً “…” ربما هو يستمتع بأن يبقى كذلك في أذهان السوريين.
ظروف خروج الشاعر وعائلته من دمشق إلى موسكو (كما يتم تداولها في الإعلام والسوشال ميديا) ربما تضيف إلى تعقيدات هذا اللغز.
يكفيني منه كسوري أنني أقرأ في تصريحاته القليلة أن قلبه كان دوماً على سوريا واحدة موحدة.
لسببٍ أو لآخر، لا أستطيع أن أقرأ تصريحات الشاعر دون أن ألمح دوماً بين سطورها “بشرى”… بشرى بموقف روسي متوازن وواقعي مما يجري في سوريا، طالما تمناه السوريون، ولكنه لم يأتِ، حتى صارَ أشبه بـ (غودو) “صموئيل بيكيت”، الذي لا يريد أن يأتِ أبداً.
تحفظي الرئيس على القليل الذي يصرح به الشاعر هو أنني لا أعلم إن كان يعبر حقيقةً عن الموقف الروسي الفعلي، كما هو، لا كما يراد أحياناً تصويره، أو لعل تصريحاته الأكثر واقعيةً في الشأن السوري لا تعدو أن تكون أداة ضغط معنوي على النظام، يضطر الروس لاستخدامها في مفاصل معينة، مع إمكانية التنصل منها، أو تفريغها كلياً بتصريحات رسمية مناقضة تماماً، الأمر الذي رأيناه مراراً.
التصريح الأخير لرامي الشاعر لم يكن يعنى بالشأن السوري الذي لطالما تحدث فيه بما قد يوحي بأنه أكثر تفهماً لمطالب السوريين، وبما لا يتطابق بالضرورة مع الموقف الروسي الرسمي الذي كان ولايزال داعماً بشدة للنظام ، أختار أن أتوقف عند هذا التصريح رغم أنه كان يتحدث في الشأن الأوكراني هذه المرة.
كما هي عادة الشاعر فأغلب تصريحاته تكون لصحيفة روسية بعينها “زافترا”، ومن ثم تتناقله عدة مواقع عربية نقلاً عنها.
خصوصية “زافترا” (الغد بالروسية) لم تأتِ فقط من كونها صحيفة خاصة لا تمثل الموقف الرسمي الروسي فحسب، بل لعلها كانت من خلال السمعة التي اكتسبتها روسياً ودولياً على أنها صوت (الستالينيين الجدد)، من هنا كان طبيعياً جداً أن تُزَيِّن مكتب محررها الأهم “أندريه فيفلوف” في موسكو صورة جدارية كبيرة بالحجم الطبيعي لـ “جوزيف ستالين” دون غيره من كل زعماء الحقبة السوفيتية، هي قطعاً ليست الوحيدة في مكاتب الصحيفة.
لإعطاء صورة دقيقة عن “زافترا” أعود للوصف الذي جاء في مقالة توم بالم فورث، مراسل وكالة رويترز ومحرر الشؤون الروسية في راديو أوروبا الحرة، الذي جاء فيه: “يصف محررو “زافترا” مهمتهم بأنها توفير الفلك القادر على الحفاظ على ما يعتقدون أنه أفضل عناصر الاستبداد القومي للهوية الروسية المسيحية الأرثوذكسية الستالينة”.
ربما من هنا لم يجد الزميل الزائر في معهد حقوق الإنسان “أنطون شيخوفستوف” حرجاً بأن يصف “زافترا” بأنها (صحيفة فاشية) كما ورد في نص المقالة نفسها.
ويحاول الشاعر في تصريحه ذاك منذ أيام ، والمنقول عن صحيفة “زافترا” نفسها الإجابة على ما وصفه بـ: “كثير من التساؤلات بشأن الوضع الراهن والعملية العسكرية التي تخوضها روسيا دفاعاً عن أمنها القومي”.
كان حصيفاً ومفيداً أن وَصَفَ الشاعر العملية الروسية في أوكرانيا بأنها دفاع عن الأمن القومي الروسي، فالعارفون في جذور المواجهة التي تخوضها روسيا اليوم يعلمون أنها تتعلق بأمنها القومي ككل، وتتجاوز لحدود بعيدة ما يحصل على الأرض الأوكرانية، بغض النظر عن رأينا في شكل ومضمون الرد الروسي على ما يعتبره الروس تهديداً لأمنهم القومي ، فما يجري اليوم تعود جذوره إلى ظروف إنهاء الحرب الباردة، والتي لم تكن في حال من الأحوال لصالح الاتحاد السوفييتي السابق أو وريثته، روسيا الحالية.
في فقرة تالية من حديث المستشار الشاعر لـ “زافترا” الروسية يكون أكثر تحديداً في الحديث عن “التقدم في المفاوضات الروسية الأوكرانية في إسطنبول، وخفض حدة الهجوم على بعض الجبهات، وكذلك التحول في تسوية عقود الغاز مع الدول غير الصديقة إلى الروبل الروسي”.
الجزء الذي لفت نظري فعلاً في تصريحه هو الذي يقول فيه حرفياً: “أود التأكيد هنا على أن العملية العسكرية الروسية لن تتوقف دون إنهاء كافة أهدافها الاستراتيجية، والتي ذكرها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حينما أعلن عن بدء هذه العملية. وأي مفاوضات أو وساطات دولية لن تؤثر عليها، وإنما يمكن أن تلعب الدول الوسيطة دوراً في تخفيف القضايا الخاصة بالجانب الإنساني، والتخفيف عن معاناة المدنيين عن طريق التوصل للاتفاقيات وفتح الممرات الآمنة”.
إذن المستشار الشاعر يفيد بشكل لا يدع مجالاً للشك بأن انفتاح موسكو على الوساطات الدولية سيكون محصوراً تماماً (وأقتبس مجدداً من تصريحه لـ “زافترا”) بأمور محددة بدقة وهي: “تخفيف القضايا الخاصة بالجانب الإنساني، والتخفيف من معاناة المدنيين عن طريق التوصل للاتفاقيات وفتح الممرات الآمنة”.
السبب الذي جعل هذا الكلام لافتاً هو مدى تشابه الموقف الروسي، كما جاء في حديث الشاعر، في الحديث عن الشأن الأوكراني بمثيله في الشأن السوري رغم الاختلافات الشديدة بين أساس القضيتين.
التشابه بل التطابق يأتي من أن الروس، كما في الشأن السوري، يضعون جهودهم كلها و يركزون اهتمامهم في قضايا فرعية، رغم أهميتها الإنسانية، لتصبح وسيلتهم في تجنب الخوض في القضايا الرئيسة التي يفترض أن كافة الحلول يجب أن تبدأ بها، ففي الشأن السوري وفي مفاصل عديدة مهمة يتحدث الروس عن جهودهم لحلول إنسانية وممرات آمنه وضمان طرق مساعدات تصبح بحد ذاتها قضايا للتفاوض حولها، في ابتعاد مدروس ومخطط عن الموضوع الرئيس، وهو إطلاق عملية تغيير سياسي حقيقي في سوريا، بتنا في شك من رغبة الروس بها أو مدى قدرتهم الحقيقية على ضمان شروط إطلاقها.
في نهاية حديثه ل “زافترا” وحتى لا يترك السيد الشاعر مجالاً للشك في مدى إصرار الروس على محدودية انخراطهم في المفاوضات حول أوكرانيا يعود للتأكيد بقوله: “وعندما يعلن أنه حدث تقدم في المفاوضات، هو تقدم للتفاهم على خطوات خاصة، بتخفيف معاناة السكان المدنيين وتفادي وقوع ضحايا بينهم، وكذلك إعطاء الإمكانية والفرصة في بذل الجهود لتخفيف الخسائر في كافة المجالات”، في ابتعاد كامل وحقيقي عن الموضوع الأساسي وهو انتهاك سيادة دولة مستقلة هي أوكرانيا.
تماماً كما كان الروس يبتعدون عن كافة القضايا الرئيسة التي قد تقدم حلولاً حقيقية في الشأن السوري.
لعلَّ في تصريح السيد الشاعر في الشأن الأوكراني رسالة واضحة لما يجب أن يتوقعه السوريون من الروس في الشأن السوري؟ سواء في المفاوضات الأممية أو من خلال مجموعة آستانا؟ خصوصاً في ظل انشغالهم بالشأن الأوكراني وتداعياته؟ .
إن كان الأمر كذلك، فالسوريون يجب أن يكونوا ممتنِّين فعلاً لصدق رسالة الشاعر التي تفرض ظروف موسكو أن تكون بين السطور دوماً.
لا شك أن الشاعر أراد “بشرى” للسوريين، ولكن كما تحكم الظروف دوماً، فهذه الـ “بشرى” قد لا تأتي على هوى السوريين، ولا على هواهُ هوَ.