بثينة الخليل – الناس نيوز ::
بصرى، أو بصرى الشام، مدينة صغيرة تقع في أقصى جنوبي سوريا، أو وسط بلاد الشام، عدد سكانها حوالي 20 ألف نسمة فقط، ومع ذلك فهي مدينة معروفة، وذات تاريخ كبير.
سبب أهمية بصرى هو موقعها الجغرافي، فهي تقع على الطريق الواصل بين أوروبا وتركيا وسوريا، وبين مصر وأفريقيا وجزيرة العرب. وهو طريق يستخدم من قبل الحجيج للوصول إلى الديار المقدسة المسيحية والإسلامية، ويستخدم من قبل التجار لأجل التجارة، ويستخدم من قبل الجيوش الذاهبة إلى الحروب والغزوات أو العائدة منها.
تقع مدينة بصرى في سهل النقرة الخصيب، بقرب وادي الزيدي شمالاً، وودادي البطم جنوبا، على بعد 140 كلم من مدينة دمشق، كانت مدينة تجارية للأنباط العرب، وعاصمة للمقاطعة العربية إبان الحكم الروماني، الذي خلف فيها آثاراً عملاقة خالدة.
يقال أن كلمة بصرى تعني الحصن في الكتابات السامية القديمة، وهذا يوحي لنا بأنها كانت موقعا محصنا منذ تأسيسها، ويوحي أن بصرى قديمة قدم هذه الكتابات التي تعود لآلاف السنين. على الأقل يبلغ عمر بصرى 3400 سنة، فقد ورد ذكرها في الكتب المتبادلة بين حكام مصر والشام في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
وجميع الشعوب التي مرت على بصرى، أو استقرت بها، تركت ذكريات وآثاراً، فبها مر محمد بن عبد الله، قبل أن يصبح نبي الإسلام والمسلمين، وفيها التقى براهب مسيحي اسمه بحيرة (أو بحيرا، أو بحيرى)، وجرى بينهما حدث تاريخي. فابن بصرى بحيرة هو أول من اكتشف نبوة النبي، وأقنع عمه أبو طالب بقطع رحلته والعودة فوراً إلى مكة، لأن اليهود يبحثون عن النبي الجديد، ويريدون قتله.
ذكر ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق، “خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد الرسول، قال: هذا رسول العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين”.
ويوجد في مدينة بصرى كنيسة قديمة بيزنطية مستطيلة الشكل جدارها هرمي تختلف هندستها عن بقية الكنائس الموجودة في سوريا، يطلق عليها سكان بصرى اسم دير الراهب بَحيرة نسبة إلى الراهب النسطوري “بَحيرة” الذي عاش بها قبل الإسلام، وهو صاحب القصة الشهيرة مع النبي محمد.
وتضم بصرى جامعاً صغيراً يحمل اسم “مبرك الناقة” الذي تقول رواية إنه هذا أقيم في المكان الذي صلى فيه النبي محمد عند زيارته الثانية لمدينة بصرى، وتقول رواية أخرى أنه يشير إلى المكان الذي بركت فيه ناقته. ويوجد أمام المحراب حجر مربع الشكل يحمل عدة فجوات فسرت على أنها ركب الناقة (مبرك الناقة). وهناك رواية ثالثة تقول إن هذا المكان هو مكان وصول أول نسخة من القرآن الكريم إلى بلاد الشام.
وليس بعيداً عن بصرى، في مدينة درعا التي ظلت تنافس بصرى على اجتذاب التجار والحجاج والعابرين، وتنافسها على وظيفة مركز المنطقة، في درعا حدث مشابه وآثر مشابه، فيها المسجد العمري، وهو أول مسجد تم بناؤه في بلاد الشام، وكان ذلك في القرن السابع الميلادي، وبني على أنقاض معبد وثني يعود للعهد الروماني، وبناه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وسمي نسبة له، ويسميه الأهالي بجامع “العروس” (وهو الجامع الذي شهد انطلاقة الثورة السورية، وتم قصفه بشكل متكرر من قبل نظام أسد).
ومن أعظم آثار بصرى، المسرح الروماني المسمى مسرح بصرى، أو مدرج بصرى، وبناه الامبراطور هادريانوس في القرن الثاني الميلادي، أي قبل ما يزيد عن 1900 عام، وهو تحفة معمارية وفنية مدهشة، بشكل مسرح حجري شديد الانحدار، يستوعب آلاف الأشخاص، ظلت تقام عليه الفعاليات الثقافية دون توقف طوال 19 قرناً.
ويدل مسرح بصرى على المكانة الكبيرة التي كانت تتمتع بها بصرى حينها (عاصمة المقاطعة العربية في الامبراطورية الرومانية) ويدل على النشاط الثقافي عالي المستوى الذي كانت تحتضه بصرى، ويدل أيضاً أن عدد سكان بصرى حينها كان أكبر من عدد سكانها اليوم، فلا يعقل أن يبنى مسرح يستوعب 10 آلاف متفرج، في بلدة عدد سكانها 20 ألف نسمة فقط.
وبعد بناء مسرح بصري بثلاثة قرون، تم في بصرى بناء كاتدرائية (كنيسة كبيرة)، وهو مؤشر آخر على أهمية بصرى في تلك الحقبة، وعلى عدد سكانها الكبير. وتتميز هذه الكاتدرائية بأنها أول معبد مسيحي بني في قمته قبة، ويقال إن الإمبراطور الروماني “جوستينيان” شيد كاتدرائية “أيا صوفيا” في اسطنبول، وكنيسة رافينا في إيطاليا، وكنيسة “الرصافة” على غرار كاتدرائية “بصرى” ذات القبة.
ورغم أن مدينة بصرى مدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “اليونيسكو” كتراث عالمي منذ عام 1980 فإن العديد من أهم مواقعها الأثرية، تعرض للقصف والتدمير بمختلف أنواع الأسلحة من قبل نظام أسد، بعد عام 2011.
ويقول الناشط أحمد الحوراني: “معظم أثار المدينة تم تدميرها بشكل كلي أو جزئي، طال القصف عام 2017 دير الراهب بحيرة بصواريخ بعيدة المدى ما أدى إلى دمار أجزاء منه، إضافة إلى قصف جامع مبرك الناقة”.
ويضيف: “رغم توقف المعارك الكبيرة، واستعادة قوات النظام السيطرة على المدينة، لم تشهد مواقع بصرى الأثرية أي عمليات ترميم، للأضرار التي نتجت عن قصف قوات نظام أسد”.
وإضافة إلى الدمار، وانعدام أعمال الترميم، تفتقد بصرى للزوار والسياح، وتفتقد للأنشطة الثقافية العالمية التي كانت تجرى على مسرحها العظيم الفارق بالصمت منذ 12 سنة، بعد أن كان يعج بالحياة والصخب دون توقف.
الأماكن الأثرية في بصرى/ دريد مقداد