علي صقر – الناس نيوز :
مع لوي عنق الحراك السلمي والبدء بتسليح الحراك، ما كان مني وأنا المسالم إلا الخروج مع عائلتي إلى إحدى القرى البعيدة عن الصراع. ضببنا ما قل من حاجياتنا الرئيسة لقناعتنا من أن تلك الأحداث غيمة صيفية وتمرق.
طال مكوثنا في قرية أقرباء زوجتي، ومع شح ما أتينا به من مونة ولباس صيفي، داهمنا الشتاء. ومع اشتداد المعارك بين القوى المتصارعة، ومع وصول أنباء من حارتي والحارات القريبة منها أن شدة المعارك قد هدأت، فما كان من زوجتي إلا مطالبتي بالنزول فوراً للمدينة وإحضار البطانيات وما تبقى من المونة.
بعد مرورنا بالكثير من الحواجز ولم تتعب يدي من تناول الهوية ومن ثم إعادتها إلى جيبي، وأصوات الطلقات تلعلع في سماء المدينة، إلا أن تلك الأصوات بدأت بالتراجع مع وصول السرفيس إلى حارتي وأخذه للأجرة أضعاف مضاعفة بحجة أنه يغامر بحياته وسيارته، ومع وقوفي أمام بيتي ومحاولتي تناول المفتاح من العلاقة، تفاجأت بالباب مفتوحاً على مصراعيه، أي لا يوجد لا باب ولا شباك.
تركوا لنا الخزانة الثابتة بالجدار لعدم تمكنهم من فك الجدار وسرقته أيضاً، كانت الخزانة مفتوحة لأنه تم “تعفيش” درفتيها، وكأن السارق ليس بغريب عني، لأنه ترك لي البطانية والبعض من الألبسة الشتوية، وتمثالاً من الخشب للسيد المسيح، وحمداً لله أنه من الخشب ولولا ذلك لعفشوه أيضاً.
وأنا أتأبط البطانية من بعد طيها بشكل دائري، طال انتظاري للسرفيس الذي يقلني إلى الكراج، ومن ثم إلى قرية زوجتي… ومع وصول السرفيس حجزت لي مقعداً ومقعداً آخر بجانبي للبطانية، ومع امتلاء السرفيس بالركاب ترجتني صبية أن تجلس مكان البطانية، وكان لها ذلك، حيث دسسنا البطانية في المنتصف بيننا، وبذلك وفرت أجرة البطانية.
وما إن قطع السرفيس حارتنا حتى توقف على جانب الطريق، وقام بتبديل نمرة السيارة ونزع الأعلام الرسمية لبلدنا وصور رئيس البلاد، ووضع مكان العلم النظامي علم الثورة وبعض الصور لقادة الحراك وانطلق بحذر شديد وأطلق من مسجلة أغنيات للساروت، أي الشعارات التي كان يرددها مع فدوى سليمان، وطبعاً كانت الموسيقى المسيطرة طوال رحلتنا أصوات القذائف والرصاص.
ومع حبس أنفاسنا لحين وصولنا إلى حارة تشبه حارتنا بالموالات، وما كان من السائق إلا أن قام بتبديل الأعلام والصور والأغاني الصادرة من المسجلة، وصراخ المرأة الحامل الجالسة بالمقعد الأمامي لا يهدأ، وكأنها ستلد الآن.
وقبل وصول السرفيس للحارة الأخرى والأقرب للكراج ومن بعد انتهاء السائق من تبديل النمر والصور والأعلام، وانطلاقه بدقائق انهمر الرصاص علينا كرشّ البرغل والرز والمطر، والسائق يصرخ بنا “انبطحوا”، ومن عزة الروح وضعت البطانية فوق راسي ليصطدم راسي براس جارتي بالسرفيس.
وفجأة أوقفتنا مجموعة من المسلحين مجهولي الهوية. أنزلوا المرأة الحامل وأخرى عجوز وقاموا بـ “طرمشة” أعيننا، واقتادونا لجهة مجهولة، حاولت أن أسترق السمع للكنة الأهالي والمسلحين، إلا أن صوت الرصاص كان الأقوى.
وبعد نصف ساعة تقريباً توقف السرفيس وأنزلونا لندخل غرفة، رائحة الرطوبة فيها تخنق الأنفاس، وأمرونا من بعد الركل بالجلوس. جلست على بطانيتي وإذ بيد تمتد لتسحبها.. وضعت يدي على تلك اليد بخوف فإذا بها ناعمة، عرفت أنها لمن شاركتني البطانية بالسرفيس، فجلسنا معاً على البطانية.
سمعنا صوتاً جهورياً ينادي باسم محمد بن يوسف والدته سميحة مطالباً إياه بالوقوف، ومن ثم سحبه لغرفة مجاورة لمكاننا، عرفت ذلك من صراخه ومن ثم اختفاء صوته وربما أثره، والفتاة التي بجانبي تزداد التحاماً بي وتزداد رجفاتها، وأسمع دقات قلبها غير المنتظمة، وصوت حاد قال بلغة عربية مكسرة ومطعمة بنكهات محلية، وهنا توقف قلبي خشية أن أكون أنا المطلوب. الصوت “وداد حمد السعد” بلا شعور أمسكت بصديقتي التي تقاسمنا معاً مقعد السرفيس والبطانية.
لم تتحرك من مكانها، تنفستُ وتنفستْ الصعداء، لأن صوتاً حاداً صدر… ومع سماعي للأسماء من خالد لعلي لعبود لفاطمة وعائشة وغيفارا، تجرأت أن أرفع “الطرميشة” قليلا بقوة عضلات جفوني ويا للدهشة.. كان كلما فتح باب غرفتنا وباب غرفتهم لأقل من دقيقة، كنت أشاهد سائق السرفيس أو ما يشبهه يغير العلم والصور حسب المحقق معه لتمويه هوية المحقق، ومن هول ما شاهدته أغمي علي لأرتمي على جارتي، والتي أغمي عليها قبلي وبعد مسيرهم بنا لمدة ظننتها نصف ساعة.
وهنا وعينا على صوت ارتطامنا بأرضية السرفيس المعدنية، وكنا ملفوفين بكفن يشبه البطانية، فتحوا لنا باب السرفيس ورمونا على الرصيف، لنعود ونتقاسم أنا وإياها البطانية، مع صوت تهتز له الجبال، صرخ بمن حوله.. قطعوووهم.. ومن عزة الروح نزعت “الطرميشة” عن عيني، وشاهدت رفيقتي بالسرفيس وهي فوق بطانيتي كأنها على بساط الريح وهي تلوح لي بالصعود .
كنت أصرخ ولك شو قطعوووونا وما قطعوووووهم… “والله وسيدنا عمر بن أبي طالب وخشبات المسيح أنا سوري مو يهودي”.. آخر ما سمعته من زعيمهم… “ولك يا غبي كنت أطلب من عناصري أن يقطعوكم الطريق ويقطعوا البطانية لقطعتين، أنت بقطعة وهي بقطعة لأنه ما التقى شاب بفتاة إلا وكانت البطانية شيطانهم”.
وما زال صوت زوجتي يلاحقني.. “لا تنسَ البطانية جاي شتوية قاسية”.