أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز :
تنويه : المادة تعبر عن رأي الكاتب ، ولا تعبر عن موقف أو توجهات جريدة الناس نيوز الأسترالية .
أصبحت العَوْلمَةُ حقيقة واقعة منذ انهيار حائط برلين في عام 1989م، وانقضاء عصر الحرب الباردة، وانهيار النُّظم الشُّيوعيّة في أوربا الشّرقيّة والاتّحاد السوفييتيّ. وهذه الظّاهرة لا تعني سرعة تدفُّق السِّلع والرّساميل والخدمات والبشر والأفكار العابرة للقارّات وحسب، بل تعني، فضلاً عن ذلك كلّه، سرعة انتشار اللُّغة الأقوى، التي تملك مقوِّمات القوّة والهيمنة والسّيطرة على اللُّغات الأخرى، خصوصاً لغات الأمم التي تعاني من مخلَّفات عهود الاستعمار، وتحاول بذل الجهود للتّحرُّر من عقابيلها الثّقيلة دون جدوى.
اللّغــة العربيّـة والأحاديّـة القطبيّـة
واللّغة العربيّة تواجه اليوم، بوصفها وعاءً للثّقافة العربيّة والحضارة الإسلاميّة، أخطاراً تَتَفَاقَمُ باطّراد، تتحدَّر إليها من تيّار العولمة الجارف الذي يرفض صياغة العالم الجديد وفق مصالح البشر جميعاً، ويُصِرُّ على جعله أحاديَّ القطب لا متعدّد الأقطاب أو المراكز أوالثّقافات، والذي يسعى إلى فرض اللُّغة الأقوى، بحكم قوّة الفعل السِّياسيّ والثِّقل العلميّ والتِّقنيِّ والاقتصاديّ، على المجتمعات الإنسانيّة التي تُخفِق وسائلُها الدِّفاعيّة المختلفة في التّصدّي لهجمته اللُّغويّة الشّرسة التي تهدّد الأسس الثّقافيّة والخصائص الحضاريّة للأمّة العربيّة والإسلاميّة. ولهذا فإنّ العولمة، بآليّاتها وتقنيّاتها ونظامها الثّقافيّ المهيمن على العالم حالياً، ستُفضِي، في أغلب الظّنّ، إلى ضياع مئات اللُّغات أوإضعافها، وتبنِّي لغة واحدة وثقافة واحدة هي اللُّغة الإنجليزيّة، كما ستؤدِّي إلى طمس الهُويّات الوطنيّة والثّقافات الخاصّة والمحليّة في بلدان العالم الثّالث عموماً، والوطن العربيّ خصوصاً.
اللّغـة العربيّـة وسيل العولمـة الهادر
إنّ ظاهرة العولمة تحمل في طيّاتها تهديدًا خطيراً للثّقافات الوطنيّة بشكل عامٍّ؛ بحيث تغدو الهُويّة الثّقافيّة، في مثل هذه الحالة، أمام اختبار حقيقيّ، فإمّا أن تحافظ على تميُّزها وتفرُّدها أمام سيل العولمة الهادر، أو تندمج فيه، وتغدو جزءاً من نسيجه؛ فتفقدَ تميُّزَها وتفرُّدها، وذلك هو التّحدِّي الحقيقيّ الذي يواجه البلدان المستضعَفة بأسرها، ويغدو السُّؤال الجوهريُّ المطروح عندئذٍ أمام كلِّ أمّة أو قوميّة: كيف يمكن المواءمة بين متطلَّبات العولمة والانخراط في تيّارها بوصفها واقعاً موضوعيّاً لا يمكن الانفكاكُ منه أوالهربُ من مواجهته، و(بين) ضرورة الحرص على التّمسُّك بمقوِّمات الهُويّة الوطنيّة وفي مقدِّمتها اللُّغة، بوصفها الحاضنَ الرّئيسَ لذاكرة الأمّة وتاريخها في الوقت نفسه ؟
اللّغــة ومفهوم السِّيـادة
وللإجابة عن هذا السُّؤال يرى عبدالعزيز التُّويجري في كتابه (اللغة العربيّة والعولمة) أنّ مستقبل اللُّغة العربيّة في عالم متغيّر تهيمن عليه آليّاتُ العولمة وضغوطها، لابدَّ من أن يقترن بالتّنمية الشّاملة المتكاملة المتوازِنة المستدامَة؛ لأنَّ اللّغة من حيث هي كائنٌ حيٌّ، تحيا وتزدهر بحياة الأمّة التي تنطق بها، وبازدهار العلوم والآداب والفنون والمعارف والصِّناعات والتّقانات التي يبدعها أهلُها في المجالات كافّةً، فيرتقون في مضمار التّقدّم الماديّ والمعنويّ، ويتبوّؤون المكانة اللّائقة بهم بين الأمم، فتكون لهم السِّيادة على لغتهم، لأنَّ لهم السِّيادة على مقدَّراتهم وآليّات حيواتهم؛ فاللّغة إذاً جزءٌ لا يتجزّأ من السِّيادة، والحفاظ على اللُّغة هو حمايةٌ لهذه السِّيادة، وتدعيم لركائزها، وتجذيرٌ لوجودها في السيّاق الموّار الذي تتعالق معه.
والحال أنّ الأمّة التي لا تُنتِج العلم، تضعف لغتها وتنكمش وتنعزل؛ وفي ضعف اللُّغة ضعفٌ للكيان الذي تستمدُّ منه اللّغةُ نسغَها الحيَّ، واللّغةُ تقوى، وتكتسب المناعة ضدّ المؤثّرات الخارجيّة حين تكون لغةَ العلم، ولغةَ المعرفة، ولغة الحياة التي تفرض نفسها وتُملِي شروطها؛ فلا تذوب في لغة أخرى، أو تفقد هُويَّتها، وتتخلّى عن مثلها العليا ورسالتها السّامية .
اللُّغـة وضـرورة التّجديـد
إنَّ اللُّغة العربيّة تقف اليوم في مفترق الطُّرق؛ فإمّا أن تتجدّد وتتطوّر لتواكب المتغيّرات اللِّسانيّة والمستجدّات في الوظائف اللغويّة، فتحيا، وتقاوم، وتُثبِتُ وجودها، وإمّا أن تنكمش، وتتقوقع، وتتراجع، وتضعف، وهذا لا يتأتّى لها إلا من خلال تقوية الرّكائز التي تنهض عليها بنيتها التّحتيّة والمعرفيّة، وهُويّتها الوطنيّة، وإنسانُها النّاطق بها، والسّياق الذي تندغم به، وتصدر عنه، ومن خلال التّطوُّر الذي يجترحه أبناؤها بعقولهم وأيديهم، وبذلك تنأى عن ضعفها، وتفرض وجودها وكيانها بين الأمم الأخرى.
أمّا على المستوى اللُّغويّ الصِّرف، فيذهب علماء اللُّغة إلى أنّ بناءنا اللُّغويَّ والثّقافيّ، في مواجهة العولمة، يفتقر إلى التّكامل والتّجانُس أوالانسجام بين وحداته، ويرَوْن في هندسته نشازاً، وفي جوانبه ارتفاعاتٍ وانخفاضاتٍ، وفي مادّته أمشاجاً وأخلاطاً من العناصر، ويذهبون أيضاً إلى أنّ هُويّتنا اللُّغويّة والثّقافيّة مهزوزة وملتبسة، يشوبُها نوعٌ من التّفكُّك والاضطِّراب، وضرْبٌ من التّنافر والتّناقُض، فاللُّغة العربيّة المنطوقة تعاني من البلبلة، وتعدُّد اللهجات والرّطانات التي تُحسَب بالعشرات بل بالمئات. وكذلك لم تنجُ ثقافتنا القوميّة من هذا التّفرُّق والتّمزُّق، ولم تسلم من الخلط وخلخلة البناء، وهذه الثقافة – وإن اتّفقت في بعض الثّوابت، وما أقلَّها- تدفع بأصحابها إلى مسارات متباينة من السُّلوك، وتوجِّههم اتّجاهات متباعدة، ومن ثمّ يصعب الالتقاءُ عند نقطة الهدف القوميّ بعامّة، وأعني بها فكرة الانتماء إلى وطن معيَّن، وتبنِّي لغة ذات كيان محدَّد.
اللّغــة والهُويّــة
اللُّغة العربيّة الآن فاقدةٌ لهُويّتها وعروبتها كما يقول العلّامة المعروف كمال بشر(1921-2015): إنّها أمشاج وأخلاط من الكلام : فصيحةٌ، ونادرة الاستخدام، ومملوءة باللّحن والخطأ، وغير منضبطة المعالم، وفي المدارس والمعاهد العامّة تُقدَّم موادُّها أحياناً باللّهجة العاميّة، بل إنّ النّحو َنفسه يُقدَّم بهذه الطريقة العجفاء، أمّا في الجامعات فإنّ أصحاب الاختصاص فيها لا يُلقُون لها بالاً، ولا يهتمُّون بها ولا بدروسها الاهتمام الكافي، حتى إنّ مؤلّفاتهم وآثارهم المكتوبة محشوّة بالأخطاء النّحويّة والإملائيّة والتّجاوزات التي تنمّ على جهل كبير، ونلاحظ الخلط كلّه في تقديم الموادّ العلمية، كالطّبّ والهندسة ونحوهما، حيث يُؤْثِر بعضُهم التّعاملَ مع طلاّبه باللُّغات الأجنبيّة (ولاسيّما الإنجليزيّة)، ضاربين عرض الحائط باللُّغة العربيّة، في حين أنّه من الأوفق والأسلم، بل من الواجب، تعريبُ اللِّسان الأجنبيّ باستخدام اللُّغة القوميّة في مجالات العلوم كافّةً، مع عدم الاقتصار عليها بغية مواكبة العصر، والاطّلاع على مايصدر من جديد في مناحي العلوم التّطبيقيّة والإنسانيّة.
سبيلُنا لمواجَهة التّحديات
إذن هناك مشكلة لغويّة تعانيها أمّتنا قد تؤدِّي إلى ذوبان اللِّسان العربيّ وفقدانه لهُويّته تبعاً لضياع هويّة الأقوام النّاطقة بها، وفقدانها لخصوصيّتها ومناحي تميُّزها من غيرها، ممّا يفضي إلى أن يصبح العرب من جرّائه أقواماً ناشزة متنافرة؛ وهذا بدوره يؤدّي، أيضاً، إلى الذّوبان الثّقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والسِّياسيّ في جسد الآخر، والاعتراف بهيمنته المطلقة على حياتنا ووجودنا؛ ممّا يفضي إلى كارثة حقيقيّة تنتظرنا جميعاً، إلّا إذا تنبّهنا لها، وأعددنا العدّة لمواجهتها بشكل علميّ مُمَنْهَج ومدروس لا في اللّغة وحدها، بل في مناحي حياتنا جميعاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد سوريّ