ميديا – الناس نيوز ::
د . عمرو حمزاوي – الشروق – بينما تنشغل السياسة الأمريكية بسباق انتخابات 2024 وبالتحول الدراماتيكى الذى أدخله عليه انسحاب الرئيس الحالى جو بايدن والترشح المتوقع لنائبته كاميلا هاريس على بطاقة الحزب الديمقراطى فى مواجهة مرشح الجمهوريين الرئيس السابق دونالد ترامب، لا تتوقف مياه العلاقات الدولية عن السريان وتواصل قضايا الحرب والسلام والأمن العالمى الضغط على القوى العظمى للبحث عن حلول لها.
بعيدا عن الولايات المتحدة، يواجه الاتحاد الأوروبى، وهو بحسابات الاقتصاد والمال والتقدم العلمى والنفوذ السياسى قطب عالمى، مجموعة من الأزمات المركبة التى تؤثر على العلاقات بين دوله، وبينها وبين جوارها المباشر فى القارة العجوز وعلى ضفاف البحر المتوسط فى شرقه وجنوبه، وتعصف باستقرارها الداخلى.
فمن جهة أولى، وظف رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان تولى بلاده للرئاسة الدورية للاتحاد فى مطلع يوليو الحالى لإطلاق مبادرات دبلوماسية ليست محل توافق عام بين الأوروبيين حيث زار روسيا للقاء مع رئيسها فلاديمير بوتين الذى يقاطعه الاتحاد منذ نشوب الحرب فى أوكرانيا (ربيع 2020 ) وحل فى الصين للقاء مع الرئيس شى جين بينج لطلب مساعدته فى صياغة خطة سلام لإنهاء الحرب والتقى مع ترامب فى الولايات المتحدة متنبئا بقدرته على وضع حد للحرب التى تستنزف القارة العجوز.
تجاوز أوربان فى موسكو خط أوروبى أحمر يقضى بعدم الاقتراب من بوتين، وتناسى فى بكين توافق دول الاتحاد بشأن تهميش العملاق الآسيوى فى قضايا الحرب والسلام، وأظهر فى فلوريدا انحيازا سياسيا لمرشح انتخابى تتحسب أوروبا لاحتمال عودته إلى البيت الأبيض وفعل ذلك فى أجواء استقطاب غير مسبوقة فى الداخل الأمريكى. ثم كان أن رتبت فردية أوربان ومبادراته الدبلوماسية التى لم ينسق بشأنها مع شركائه الأوروبيين الذين إلى اليوم يصمون آذانهم عن حديث إنهاء الحرب والحل السلمى للصراع بين روسيا وأوكرانيا، رتبت إقرار إجراءات عقابية من قبل الاتحاد تمثلت فى خفض عديد الدول لمستويات حضورها فى الاجتماعات التنسيقية التى تترأسها المجر وفى نقل اجتماعات وزارية من العاصمة المجرية بودابست إلى بروكسل.
من جهة ثانية، بات واضحا للأوروبيين أن المخاطر الأمنية والاقتصادية المرتبطة بالحرب الروسية -الأوكرانية فى سبيلها إلى التصاعد، إن بسبب أتون سباق التسلح الذى أطلقته الحرب وتسكب عليه روسيا من خلال رفع معدلات إنتاجها العسكرى والولايات المتحدة بشحن المزيد من نظم السلاح المتكاملة إلى القارة العجوز المزيد من الزيت المشتعل أو بفعل الكلفة الاقتصادية والمالية الباهظة للحرب وتداعياتها السلبية على أسعار الطاقة ومن ثم معدلات النمو الوطنية فى عديد دول الاتحاد أو فيما خص اشتداد الضغوط المجتمعية والسياسية المتعلقة بقضايا هجرة ولجوء الأوكرانيين فى بعض الدول (ومنها المجر). اليوم، وعلى الرغم من مواصلة حكوماتهم الكبيرة رفض الانفتاح على حلول دبلوماسية وسلمية، صار الأوروبيون يدركون المضامين الكاملة والنتائج الكارثية لنشوب حرب على أراضيهم.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك عجز الاتحاد الأوروبى عن التدخل الفعال لإنهاء الحرب فى غزة واكتفاء حكوماته الكبيرة، خاصة الألمانية والفرنسية والإيطالية، بالدعوة (حتى الآن) غير المؤثرة إلى وقف إطلاق النار وإلى إنفاذ المزيد من المساعدات الإنسانية وإلى الشروع فى جهود إعادة الإعمار فى تجاهل شامل لواقع القطاع الذى لم يصمت به السلاح منذ 7 أكتوبر ٢2023 ، ثم ربطنا بين الحرب واحتمالات التصعيد الإقليمى فى لبنان بين إسرائيل وحزب الله وبين إسرائيل وجماعة الحوثيين فى اليمن تصير بيئة المخاطر المحيطة بالقارة العجوز والكلفة المفزعة لانهيار الأمن والاستقرار على ضفاف المتوسط الشرقية والجنوبية (وتأثيراتها على قضايا كالهجرة غير الشرعية) جلية.
من جهة ثالثة، وكما دللت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى فرنسا وكما تدلل استطلاعات الرأى العام فى ألمانيا ودول أوروبية أخرى، لا تعانى القارة العجوز من حرب على أرضها ومن بيئة إقليمية فاقدة للأمن والاستقرار تحيط بها، وحسب. بل أضحت مجتمعاتها فى الغرب والجنوب مثلما فى الشمال والوسط والشرق تتعرض لهزات عنيفة بسبب الاستقطاب السياسى الحاد بين يمين عنصرى متطرف ويسار راديكالى يضيع فى خضم صراعاتهما حول الهجرة والأجانب والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والموقف من الحرب الروسية – الأوكرانية الوسط السياسى (يمينا ويسارا أى أحزاب المسيحية الديمقراطية والأحزاب الليبرالية هنا وأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وأحزاب العمال) الذى صنع معجزة النمو المستدام والأمن الشامل والاندماج القارى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
الصفيح الساخن الذى تقف عليه مجتمعات أوروبا وهى تتابع اقتراب اليمين المتطرف فى فرنسا من اقتناص مقاعد الحكم وتراقب الحالة الألمانية بانتخابات الولايات والانتخابات الفيدرالية المتتالية فى 2024 و 2025 وتشاهد الذكاء السياسى لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلونى التى تنقلب على القوانين الليبرالية فى الداخل وتتصرف بعقلانية تلتزم بالتوافق الأوروبى العام فى الخارج، الصفيح الساخن هذا يذكر بأوضاع القارة العجوز فى فترة ما بين الحربين العالميتين (بين 1918 و1939) وخلالها سببت الصراعات الداخلية (خاصة فى ألمانيا) والحروب والأزمات الأهلية (آنذاك فى البلقان وفى إسبانيا) انهيارا اقتصاديا قاتلا (الكساد العالمى 1929) وفكت تدريجيا الهيمنة الاستعمارية للأوروبيين على العالم وزجت بهم إلى كوارث الفاشية والنازية ومحرقة اليهود (الهولوكوست) ودماء ودمار الحرب العالمية الثانية.
وفى حين تستنفذ طاقات أوروبا بفعل أزمات دول الاتحاد والمخاطر الناجمة عن الحروب داخل القارة وفى جوارها المباشر والصراعات السياسية داخل مجتمعاتها وتراوح الحكومات الكبيرة فى باريس وبرلين وروما فى مواقع السكون دون إطلاق مبادرات حقيقية للحد من الأزمات والمخاطر والصراعات وبينما تنشغل الولايات المتحدة بسباقها الانتخابى ووضعية الاستقطاب السياسى والمجتمعى التى تعانى منها، تواصل الصين صعودها الدبلوماسى والسياسى عالميا وتنتزع مساحات جديدة لأدوارها إن فى الجنوب العالمى أو فيما خص إدارة شئون التجارة والحرب والسلام بين الجنوب والشمال والتوسط لحل صراعات إقليمية تهدد الأمن والاستقرار
تنتزع الصين تلك المساحات الجديدة، وكما تدلل وساطتها لتفكيك التوترات بين الكوريتين وتهدئة الشد والجذب بين الفلبين ودول آسيوية فى المحيط الهادى وكذلك إعلان بكين بشأن المصالحة الفلسطينية، رغما عن تحفظات الأمريكيين والأوروبيين واتساقا مع رؤية حكومتها للتوسيع التدريجى لنفوذها فى قضايا العلاقات الدولية والسياسة العالمية على نحو يتناسب مع تقدمها الاقتصادى والاجتماعى والعلمى والتكنولوجى الداخلى.
نحن أمام عالم تتغير أحواله كل يوم، ولا بديل عن المحاولة المستمرة لفهم مساراته الراهنة واستقراء تطوره المستقبلى.
أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد.