أكتب في الشأن السياسي، ولا أعمل به، السياسة تسري في دماءنا نحن السوريون، ولستُ استثناءً في ذلك، لم تغير في ذلك سنين الاغتراب
الطويلة، بل زاد في الأمر ما تمر به سورية في العقد الأخير، فصارت السياسة هَوَساً، وليتها لم تكن.
لا أصنف نفسي معارضاً، ولا موالياً، رغم أن الرمادي ليس من ألواني المفضلة.. أصنف نفسي سورياً، عروبياً، عروبتي متصالحة مع سوريتي،
هكذا كنت دوماً، ولا نية للتغيير.. أتاحت لي ظروف الحياة أن التقي الكثير من المشتغلين بالشأن السياسي، من كافة المذاهب والمشارب، أو أن
أتحدث إليهم، معارضين، وموالين، وبين بين، لا أرى فيهم إلا سوريين، مثلي تماماً.
لم تسنح لي ظروف الحياة أن ألتقيه يوماً، وعندما أرسلت له طلب صداقة على صفحته (الفيسبوكية) لم أتلق رداً أبداً، ولن أتلقى.. لم يغير هذا من
شعوري نحو الرجل الذي كنت دوماً أشعر بشيء خاص نحوه يشدني إليه بقوة، أزعم اليوم أنني أدرك ما هو. ميشيل كيلو.. عاش ومات.. سورياً حتى
الثمالة، كان قياسه أكبر بكثير من أن تحتويه بزة موالي، أو ثوب مُعارض، ورقبته الممتلئة كانت وظلت عصِيَّةً على قيود ربطات عنق العلمانيين،
وأوشحة المتدينين، على اختلاف عقائدهم، كانت قامة الرجل ببساطة أعلى بكثير من أن تدثرها جُبَّةُ شيخ، أو قفطان قس. حتى لهجته، كانت خليطاً من
قساوة الجبل، ووداعة الشاطئ، فيها يمتزج اخضرار الكروم، ويباس الصحاري، لهجة يلتقي فيها السوريون جميعاً، ببساطة وتلقائية.. صادمة أحياناً.
موقف ميشيل كيلو المناهض تماماً لكل آليات القمع والفساد والقبضة الأمنية واحتكار السلطة و و و.. لم يغير أبداً من إيمانه بوحدة الشعب
السوري بكل مكوناته، وعندما اشتدت آليات القمع والفرز والإقصاء وصارت تحاول اتخاذ مظاهر تفرق بين السوريين، ظلَّ متمسكاً بوحدة الشعب
السوري ولم يوجه إصبع اتهامه إلا لمن قمعوا حراك السوريين، وفرقوا بينهم، وأوغلوا في دماءهم، وظل ينادي بسورية واحدة موحدة بكل ولكل أبناءها.
كان للرجل هواه السياسي ولونه المفضل الأقرب إلى اليسار، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون منفتحاً على الطيف السوري كله، بل ومتبنياً لآماله
وشريكاً في آلامه، وعندما حاول النظام ومؤيدوه استخدام كل آليات التزييف والتضليل والخداع لوسم حراك الشعب السوري كله بصبغة واحدة
غير حقيقية، كان دوماً جاداً وحاداً في تعرية كل هذه الجهود وأعلن بوضوح وصراحة أن لا مشكلة لديه في أن تنطلق مظاهرات السوريين من المساجد.
يأخذ البعض على ميشيل كيلو أنه كان مهادناً لدرجة بعيدة لتيارات فكرية وسياسية في المعارضة السورية، هو أبعد ما يكون عن خطها الفكري
والسياسي وينسى هذا البعض أو يتناسى أن الرجل لم يهادن المنظومة الأمنية السورية وهي في أقصى حالات تمكنها وجبروتها أيام حكم الأسد
الأب، لا بل ودفع أثماناً عالية وغالية في مجابهته لها، في أوقات كان من الممكن أن يشتري حريته بلحظة صمت أو إيماءة قبول.
أعترف بكل جرأة أنني لطالما رأيت ميشيل كيلو في مفاصل عديدة طائراً في غير سربه، وأنه مضى بعيداً في تفاهماته وربما تحالفاته مع من
يختلفون عنه كثيراً في خطهم الفكري ومراسهم السياسي.
ربما يفسر ذلك حالة فريدة من الاستغراب والدهشة اعترت العديد من السوريينـ وأنا منهم، وهم يرون سوريين آخرين قضوا سنين طويلة ينتقدون
الرجل لحد التقريع المؤذي، وهم يسبغون عليه صفات الأنبياء والقديسين بعد رحيله المحزن.
العديد من منتقدي ميشيل كيلو كانوا أيضاً يرون أنه مضى بعيداً في تحالفاته وتفاهماته مع سوريين آخرين، هم أبعد ما يكونون عن كل ما آمن
به الرجل طيلة حياته الحافلة، بل ويعتبرون أن تجلي ذلك في سنواته الأخيرة ربما يشكل سقطةً أخلاقية في تاريخه الناصع، دَعَمَ هذا الشعور حالة رفض
لدى عديد من محبي ميشيل كيلو لشلليةٍ صارمة وحادة عرف بها هؤلاء الذين هادنهم ميشيل كيلو لحد التحالف معهم في سنواته الأخيرة، يضاف
إليها اتهامات خصومهم لهم بفشل سياسي ذريع وعسف فكري مريع.
أشعر بامتنان شديد للصديق الذي استشرته في أن أكتب في هذا الأمر عند رحيل الرجل، سألته إن كان ذلك لحساسية التوقيت، فارتأى أن الفكرة غير واردة في أي توقيت.
ربما لم يدرك منتقدو ميشيل كيلو أن الرجل لم يكن مشروع سلطة، ولا مشروع حزب، ولا حتى مشروع معارضة، بل كان بكل بساطة مشروع وطن.
اليوم، وبعد مرور أزيد من شهرين على رحيل ميشيل كيلو.. أعترف أنا السوري العادي الذي لا ينتمي لأي خط سياسي أو فكري من أي لون، بأن ما
وصفته يوماً بـــ (المعركة الوحيدة التي خسرها ميشيل كيلو) في مضيه بعيداً في تقبله لخط فكري أو سياسي في المعارضة هو أبعد ما يكون عنه،
لم يكن إلا (معركته الأهم والأجدى) والتي انتصر فيها بشكل لا يقبل المواربة، هي نفسها المعركة التي يحتاج كل سوري اليوم أن ينتصر فيها على ذاته،
في تقبله لسوريين آخرين، لا يشبهونه، ولا يشبههم، وأن يعمل معهم ويعملوا معه.
لكل من يشكك (محقاً أو غير محق) في أهمية هذا في (إرث ميشيل كيلو) السياسي والفكري والأخلاقي والإنساني، أحيله إلى وصية ميشيل كيلو
الأخيرة، التي ربما لم تكن مصادفةً أبداً أنه وجهها لــ “السوريين” كل السوريين، بغض النظر عن توجهاتهم وأهوائهم ومشاربهم، ولم يختص بها
أي مجموعة سورية معينة، فكرية أو سياسية أو تنظيمية.. فهل من مستمع لصوت الرجل الذي لايزال يتردد بيننا وهو في عالم سلامه السرمدي؟


الأكثر شعبية


السلطان هيثم بن طارق يبحث العلاقات الثنائية مع ملك هولندا…

