أروى غسان-الناس نيوز
بين أزقتها الضيقة المرصوفة بحجارة الطريق العتيقة، تخبّئ إسطنبول الكثير من دررها الثمينة، التي لا تكشف عنها إلا لعشاق الاسكتشاف وتجريب غير المألوف، ويعد حي “بلاط” التاريخي الواقع على خليج القرن الذهبي، واحداً من أنفس تلك الدرر.
في حيّ لا ينتمي لزمن ناطحات السحاب، وزحمة الألفية الثالثة، ستقع في حب العشوائيات، والبيوت المتلاصقة على بعضها كتفاً بكتف، بألوانها الزاهية وشرفاتها العامرة بأصائص الزهور المنزلية، وقد تدلّك حبال الغسيل الممتدة بين الحارات القديمة على بساطة المنطقة وأهلها، حيث لم تستطع كل التغييرات التي طرأت عليها أن تقطع حبال الود فيما بينهم، هناك مازالت الجارات تجتمعن للتسامر وشرب الشاي على عتبات الأبواب.
يستمد المكان جماليته من تنوعه الثقافي والحضاري والديني، وتاريخه العريق الشاهد على الحقبتين البيزنطية والعثمانية، فلا تزال جدرانه القديمة شاهدة على الحضارة الرومانية، غير آبهة باختلاف الحضارات وفعل السنين. تزخز المنطقة بالكنائس الرومانية والأرمنية التي يعود تاريخ بعضها إلى القرن السابع الميلادي، و كان غالبية أهل بلاط في تلك الفترة من السكان اليونانيين، ولكن أغلبهم تركوا منازلهم بعد فترة قصيرة
من”الفتح ” الإسلامي للقسطنطينية.
يلاحظ الزائر “نجمة داود” على كثير من المنازل والأبنية، فبعد الفتح شهد الحي حقبة جديدة وسكاناً جدد، وفي عهد السلطان بايزيد الثاني، استقبلت بلاط اليهود الفارين من الأندلس، بعد إجبارهم على الجلاء منها عام 1492 على يد حكام إسبانيا ، ويضم الحي اليوم ثلاثة معابد يهودية، أبرزها “معبد أهريدا”، الذي بني في القرن الخامس عشر، ولا يزال يؤدي دوره وتتم إدارته من قبل أحد الحاخامات، ويمكن دخوله بإذن مسبق.
هجرة ثانية شهدها الحي وتغيير ديموغرافي آخر، بعد مغادرة اليهود الحي إثر الزلزال الذي ضربه عام 1894، منتقلين إلى الأحياء القريبة من برج غلاتة، قبل بدء هجرتهم إبان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بعد نكبة عام 1948. وقد أصبح الحي لاحقاً مستقراً للعديد من الأشخاص ذوي الدخل المحدود غالبيتهم من المسلمين، والطبقات الاجتماعية الفقيرة.
“القصر” هذا ما يعنيه اسم “بلاط” اليوناني في اللغة العربية، اسمٌ للحي منه نصيب، لكن قصورَه تحولت بفعل فقر أصحابها إلى بيوت ومقاهٍ شعبية فلكلورية يبلغ عمر بعضها مئات السنين، واكتسحت العشوائيات المكان دون أن تشوّه المعالم التاريخية الأصيلة للحي، مضفية الكثير من الجمال والبساطة عليه.
في “بلاط” تتفوق محلات الأنتيكا بمقتنياتها المميزة،على أهم المولات التجارية الموجودة في أحياء إسطنبول الراقية، وإن كان حظك وافراً وصبرك جيداً، فمن الممكن أن تعثر هناك على قطع فريدة لاوجود لمثيلها في كل المدينة، حيث يتباهى البائعون بندرة القطع المعروضة، وإن كنت تبحث عن السعر الأرخص فقد تجده على العربات الخشبية الجوالة التي يتنقّل بها أصحابها بين أزقّة بلاط مستعينين بأصواتهم الجهورية لترويج بضاعتهم.
ونظراً للجمال البكر الطاغي على بلاط، وأجوائه التاريخية، فإنه يعتبر واحداً من أبرز الأمكنة التي تفتح شهية المنتجين لتصوير أعمالهم ، ويعد مسلسل “تشوكور” أو الحفرة باللغة العربية، واحداً من أهم الأعمال التي تم تصويرها هناك وقد حصد نسبة مشاهدات مرتفعة جداً في تركيا والعالم العربي، وساهم نوعاً ما بلفت الأنظار إلى تلك البقعة الثمينة التي لطالما بقيت مختبأة عن أعين السياح رغم وضعها على لائحة اليونسكو للتراث العالمي.