بهيج وردة – الناس نيوز :
من خلال ما يشبه التتبع الزمني لرحلة حسام جيفي (بهلول) الحياتية، يمكن لك أن تجد علاقة
مرتبة تنطلق من الموسيقى إلى الشعر ودراسة الطب واختيار التخصص في الطب النفسي،
وصولاً إلى عمله الموسيقي في الألبوم الخاص به “تلصص” (2019)، وما تلاه من إنتاج
موسيقي مع فرقة سوق الجمعة، وما بينهما من تجريب في الفيديو آرت وبعض الفيديو كليب
لأغنياته. إلا أن سؤال البحث عن كل ما انشغل به، يحمل عنواناً عريضاً اسمه “بهلول”. اسم
العائلة الذي لم يتبناه في كتابي الشعر “فتاحة الأمل المعلّب” (2008)، و “طيور تدخن
الماريوانا” (2017)، واكتفى وقتها باسم: حسام جيفي. فيما بات “بهلول” هو العنوان العريض
لمشروع فني متعدد المنصات. في هذا الحوار رحلة ومحاولة إجابة وبحث.
في ألبومك تلصص يلاحظ محاولتك التخلص من إشكالات مراهق وباحث عن الحياة كمن يعالج
نفسه بالموسيقى والغناء. كيف بدأت رحلة خلق هذا الألبوم وهل بدأته بغرض العلاج الذاتي أم هناك مآرب أخرى؟
عندما كتبتُ أغاني ألبوم تلصص جاءت مواضيع الأغاني متماشية مع ما كنت أنبش وأنقّب عنه
وقتها مع معالجي النفسي. حيث سبق تلك المرحلة سنوات من محاولة فهم الذات والتاريخ
الشخصي وتتبع أثر العائلة، على أنقاض اغتراب ومنفى و”وطن” سوري يحترق بما فيه من
ذكريات ومعنى. أعتقد أن تلك الظروف وسنين علاجي النفسي وممارستي للطب النفسي كلها
قادتني إلى (بهلول) كإجابة عن أسئلة وجودية نرجسية يطرحها الكثير على أنفسهم في مطلع
الثلاثينات من العمر. فمن أنا؟ وما معنى ما أقوم به في هذه الحياة؟ وما الذي سأتركه ورائي؟
جاء تجسيد (بهلول) في جذور شخصيته التاريخية، القاضي العبّاسي الذي آثر أن يدّعي الجنون
على هجرة بلده وناسه تقيّة لبطش السلطة، كبعد فانتازي يماشي هواي وطبيعتي. وبطبيعيّة
عجيبة، تسقط هذه الشخصية بشكل مدهش على عمّ لي، كان ذائع الصيت في التاريخ
المحكي (وبعض المكتوب) لمدينتي اللاذقية، اسمه تيسير جيفي بهلول، رجل عبقري واسع
المعرفة متعمق الدراسات يمشي الشوارع حافي القدمين متأبطاً دوسيهات وكتب في طريقه
إلى القصر العدلي، يحاجج السلطة فتحميه كفُّ الجنون الرحيمة. ولكن حسبي أن ما يربطني
بهؤلاء البهاليل هو قربي من هذا “الجنون” وتعاملي معه بشكل يومي فأعيشه في حياتي ومع
مرضاي وألعب باحتمالاته في عقلي، أو ربما بالنهاية ليس لي من (بهلول) إلا الاسم، كما ليس
لأكثرنا من اسمائهم إلا القليل.
لاسمك الكثير من الحكايات لكنك حكيت قصتك معه موسيقياً، كيف ترويها؟
لاحظ أن أغنية قلّ لي بهلول Call me Bahloul))، هي إعلان عن امتلاك هوية جديدة. أغنية
انتصار واعتناق لاسم كنت قد تنكرت وخجلت منه طوال حياتي (فاسمي الكامل هو حسام الدين
محمد عدنان جيفي بهلول)، ولكن المضايقات والسخرية التي تعرَّضت لها كطفل وشاب مراهق
في المدارس بسبب طول الاسم وغرابته واسم عائلتي (بهلول) ودلالاته المعاصرة قصيرة النظر
كانت كفيلة بأن أخفيه عن العلن كشاب خجول. إذ لطالما استخدمت اسمي المقتضب (حسام
جيفي) في حياتي غير الرسمية واستخدمته في كتابيَّ المنشورين قبل ٢٠١٨، ولا أخفيكَ، فقد
كان استصلاح اسم بهلول وإعادة تملّكه عبر أغاني ألبوم تلصّص والتجريب في هذه الأغاني
تجربة “علاجية” بامتياز. تجربة كان عليّ أن أخوضها لا محال. فمنذ بدأتْ أغاني تلصُّص بالتدفق
في خريف ٢٠١٨ بتلك العفوية والغزارة وفي فترة قصيرة، كان لديّ دافع غريب كي أسجّلها
وأغنّيها (وأنا لست بمغنٍّ) بغرض التعرف على صوتي الخاص وذاتي. جرّبت في تلصُّص أن
أكتب خواطري الشخصية على شكل أغان بها فتحت نوافذي للآخرين كي يتلصصوا عليَّ بحرّية.
فمنهم من فعل ومنهم من ينتظر.
عرفتك بداية من خلال “فتاحة الأمل المعلب” شاعراً، ثم تطورت المعرفة إلى الموسيقى،
وعدت إلى الشعر وفي هذه الأثناء كانت الدراسة والعمل في الطب النفسي، خبرني عن هذه المشروعات؟
تأتي “المشاريع” فرادى أو جماعة، فأنكبّ على أحدها حتى أتعب منه فانصرف للثاني وثم
الثالث. أتعب فأستريح. تأتي الأزمات إليّ أو إلى من أحبّ، فألتفت لها حتى تهدأ. لتعود بي
الكرّة إلى ما بدأت به من مشاريع صغيرة تسير بشكل حلزوني نحو الأمام. إلا أن ما ساعدني
مؤخرا على الانتاج الموسيقي المنتظم هو شريكيَّ في الموسيقى، غسان صوالحي (الأركِتِكْت)
صاحب انضباط ودقة المنتج ومهندس الصوت، ومحمد صلاح علي (الذي قمتُ بتلقيبه ‘سوحة’،
وأنا مدين له بقبول هذا اللقب) صاحب بعد النظر ورجاحة الرأي، إلى جانب صوته الدافئ
الحنون. معهما أشتغل على الكثير من الموسيقى في إطار فرقتنا الجديدة (سوق الجمعة)،
ونتشارك مع فنّانين آخرين عملية الخلق هذه.
لماذا سوق الجمعة؟
كان اختيار اسم للفرقة مهمة صعبة نظراً لولعنا بالأسماء. ومن بين الكثير من الأسماء المرشحة
استطاع (سوق الجمعة) أن يحتوي بين حناياه روح المشروع وفلسفته. فنحن نعتقد بوجوب
سماع الماضي من أذن الحاضر. طبعا يلزمك بضعة مهاجرين بعيدين عن أوطانهم، فصلت
الأزمنة والمسافات بينهم وبين عوالم ثقافتهم ومواطن هذا الإرث لعملٍ كهذا. فالمسافة تُغَذّي
نارَ الاهتمام. وكما في أسواق الجمعة على امتداد عالمنا العربي، أي الأسواق التي تظهر عفوياً
في المدن أيام الجُمَع حيث يأتي أهل المدينة من البسطاء وميسوري الحال لاستعراض المنتج
المحلّي وتقليب ما تمّ ترميمه من خردة وروبابيكيا وتقديمه ملمّعاً نظيفاً في متناول اليد—يأتي
الفنّانون ليتشاركوا في مشروعنا. تسمع معنا في سوق الجمعة أغانٍ جديدة بروح تشاركية. حيث
يتصيّد روّاد السوق كلّ ما عفا عنه الزمن وتراكم عليه الغبار من أرث موسيقي يمكن للسوق أن
يعيد تقديمه بما يتناسب مع الرؤية المعاصرة للأغنية. فتنتج الأغاني من خلال العمل المشترك بين الفنّانين.
في موقعك كتبت بعض الحكايات عن أغنيات ألبومك تلصص، لكن ماذا عن حكايات أغنيات سوق الجمعة؟
بدأنا العمل على أغانينا في صيف ٢٠١٩، وكانت أولى إصداراتنا أغنية يا شعبي حبيبي في ربيع
٢٠٢٠. اختار لنا الأركِتِكْت هذه القصيدة التي تعبّر عن روح عالمنا العربي عندما تركناه آخر مرة،
أي إبان موجات الربيع العربي. الكلمات تنسب لأحمد فؤاد نجم، فيما اللحن مشترك بيني وبين
الأركِتكْت والغناء لسوحة. تبعتها أغنية “أحنّ شوقاً” حيثُ وضعتُ فيها لحناً جديداً لقصيدة
قديمة تُنْسَبُ لابن الفارض. ولهذه الأغنية قصة. فلطالما تذمّرت شريكة حياتي (ألمى) من عدم
وجود أغنية تغنّي اسمها. حاولتُ أن ألفت انتباهها مراراً إلى قصيدة قديمة مغنّاة بلحن لرائد
المسرح الغنائي أبو خليل القباني كان قد غناها بعده الكثيرون من أمثال صباح فخري تقول
كلمات القصيدة “أحنُّ شوقاً إلى ديارٍ رأيتُ فيها جمال سلمى\شربْتُ منها لمَى عقارٍ من كفّ
ساق الشراب ألمى”. ولكن كان عذر شريكتي أن اللحن قد طغى على الكلمة في لحن القباني،
وهو أمر اعتاد الملحنون القدماء حقيقةً فعله، فضاع وقع الاسم ورنينه. وبالفعل عند سؤال
الكثير من الأصدقاء غير المختصين، كان الكثير قد سمع الموشح الأصلي من قبل ولكن لم ينتبه
لوجود اسم أو كلمة (ألمى) نظرا لطبيعة الجمل اللحنية الطويلة والمركّبة التي تلبسها في
اللحن الأصلي. لذا قررتُ وضع لحن جديد لهذه القصيدة غير معروفة الأب والمنسوبة لابن
الفارض. اللحن يراعي الايقاع الداخلي للقصيدة ويظهر الكلمات تحت ضوء أقوى. فكانت أغنية
سوق الجمعة الثانية (أحنُّ شوقا).
ماذا عن بقية الأغنيات وكيف كانت رحلة الخلق الموسيقي خصوصاً الأغنيات التي يميل طابعها إلى الموسيقى العربية الكلاسيكية؟
بعد “أحن شوقاً” أصدرنا أغنية أنا كاتبها اسمها “صاح لا أدري” كتبتُها لأصدقائي في سوق
الجمعة، وفيها محاولة لرصد معاني الصداقة والحب والحياة واليقين. تلتها أغنية “يا ناعس
الأجفان” من لحن الشيخ عمر البطش مع تبسيط لإيقاع الموشح الأصلي المركب، أملاً منّا أن
يفتح الأغنية على الأذن الحديثة ويعطي جمال لحنها عمراً جديداً. كما كنت قد أضفت بضع
الأبيات على الأبيات الأصلية في محاولة للتأكيد على اللعب المقصود في هذا الموشح
ومشروعية إعادة تفسيره وتقديمه. فكلمات الموشح الأصلي غير معروفة الكاتب. ويبدو من
صياغتها الكلامية أنها قد خضعت لإعادة كتابة على الأغلب من قبل كتّاب متتاليين. خاصة
البيت الأخير الذي لم نضمّنه في أغنيتنا والذي يخاطب فيه الكاتبُ الملحن عمر البطش فيقول
“وزائد التوضيح عمرُ أنشد… قد لحّنَ التوشيح فرعاً من الرصد”. حيث يبدو لي أن من كتب هذا
البيت قد أضافها لاحقاً لما يشتمل عليه من تعليق على الموشح ومقامه. أضفت أبياتا أخاطب
فيها هذا الكاتب المحتجب عن معرفتنا، وكاتب الأغنية الذي أعطانا أغنيته التي تبعث على
الطمأنينة، في عملية تناقل للإرث الموسيقي بين الأجيال “يا كاتب الأبيات يا محتجب عنّا… إن
دارت الأدوار صوتك يطمّنّا”. وأخيرا أصدرنا أغنية (ليلة أنس) من كلامي ولحني ليلة رأس سنة
٢٠٢١. وعلى الرغم من كتابتها قبل جائحة الكورونا والحجر الصحي إلا أن كمية النوستالجيا فيها
بدت مناسبة للحظتنا الراهنة ولتوقنا جميعا إلى أزمان بعيدة وليالي أنس لم نع من قبل كم هي هشة وعابرة.
هل لخياراتك الكلاسيكية في الموسيقى العربية علاقة باغترابك وحياتك بعيداً جداً عن مصادر
تلك الموسيقا، وهل كنت لتقدم التجربة نفسها لو كنت بهذا القرب؟
من المؤكد أن للمغترب علاقة باهتمامي الحالي بالموسيقي الكلاسيكية العربية. فكما أسلفت،
كان البعد دافعاً للتقرّب من الموروث والأصل. في صباي في سوريا كنت أستمع لموسيقى
الروك والهاردروك والجاز ولكن أجدني اليوم عاجزاً عن فعل أكثر من تذوّقها عندما تُتاح لي. فلا
أسعى ورائها ولا استجديها على الرغم من توافرها في واقعي الأميركي في كل زاوية وركن.
تقدّم لي الموسيقى العربية اليوم ما أفتقده في المنفى من خلال العودة إلى الوطن الفانتازي،
أي وطن النغم. فأقع شهرياً في حب مؤلف موسيقي عربي أو سوري جديد. حالياً أعشق الشيخ
بكري الكردي، وهو أحد كتاب الأغنية الحلبية الشهيرة مثل أغنية “ابعتلي جواب” التي غناها
الكثيرون لاحقا كصبري مدلل ومحمد خيري. وكان الكردي مؤذناً في الجامع الأموي بحلب،
اشتغل بالتأليف والتلحين وبلغ ذروته في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي وله نتاج
غزير من القدّ و الموشّح و الأغاني، المعروف منها والمنسي. خلاصة، أسْبَحُ حالياً في بحر
المغترب العميق، أجتازُ فترات سلام وفترات نوّ عاصف، يُساعدني الماضي وأشخاصه وسيرهم
وموسيقاهم على تحمّل وطأة الحاضر. فتخرجُ أغانيّ بنكهة وطعم قديم. لا أزالُ في خضمّ
مرحلة طويلة من تصفية الحسابات على ما يبدو، فبعد محاولة تصفية الحساب مع الوطن في
كتب الشعر، ربما تكون محطة “سوق الجمعة” بداية تصفية حسابات مع الإرث مثلاً…