قد يكون صادماً للقراء الكرام أن نتحدث عن بوريس جونسون، في سياق المفكرين الذين نصبوا الجسور بين الإسلام والعالم، فالرجل المعروف بعفويته وشعره المنكوش وأزراره المفتوحة وروحه الطريفة، لا يقدم عادة كمؤرخ ولا حكيم، ولكنني أعتقد أنه مؤهل لذلك، ولولا بعض انشغالات له اليوم في وستمنستر لكان بالفعل رائداً في حوار الحضارات والثقافات.
تعرفت إلى جونسون في مكتبي في مركز الدراسات الإسلامية بدمشق 2006 كصحفي ونائب سابق في مجلس العموم، يحمل مشروعاً تنويرياً في بناء الجسور بين الإسلام والغرب، واصطحبنا أسبوعاً كاملاً في حوارات مختلفة حول صراع الحضارات، وكان يدهشك بحجم المعلومات التي يعرفها عن اللقاء والصدام الحضاري بين الإسلام والغرب في مختلف فصوله.
أتحدث عنه كواحد من أكبر المستشرقين اهتماماً بحضارتنا وتاريخنا، وهو اهتمام دفعه أن يكرس شبابه لعمل بالغ الأهمية، أصدره في كتاب مطبوع بعنوان حلم روما، ثم حوله إلى فيلم ديكودرامي تحت عنوان: ما بعد روما (After Rome) نشرته (BBC) في ست حلقات متتالية، وقد خص فيه الحضارة الإسلامية بأربع حلقات سجل إحداها كاملة في الجامع الأموي والزهراء وأماكن أخرى في دمشق.
كان من أولئك المؤمنين بسحر روما ومركزيتها ورمزيتها فهذه المدينة المركزية في الجزيرة المتدلية في قلب المتوسط قادرة أن تكون عاصمة العالم وقد فعلت، والتاريخ السائد اليوم روماني في مصطلحاته ومقاييسه فهذه التسميات الشهيرة مثلاً: الشمال الأقصى والجنوب الأقصى والشرق الأدنى والأوسط والأقصى والغرب الأقصى لا معنى لها في الصين واليابان، فالشرق الأوسط والأدنى والأقصى بالنسبة لهم في مكان آخر، فالأرض كروية وكل مكان فيها شرق لقوم وغرب لآخرين، ولا يمكن أن نفهم هذه المصطلحات إلا إذا وافقنا على أن روما هي مركز العالم وكل الطرق تؤدي إلى روما.
ومع أن روما من الناحية العملية انتهت مبكراً كعاصمة عام 320 حين قرر قسطنطين أن يقترب من السحر الآسيوي، ويرحل إلى خليج الدردنيل وينشئ هناك مدينة القسطنطينية، في طموح مختلف لامبراطور أسطوري أراد أن لا يشبهه أحد، ولكنه مع ذلك ظل يسميها روما الجديدة والامبراطورية الرومانية والأباطرة الرومان، وظل سحر روما يسكن طموح الأباطرة في القسطنطينية أكثر من ألف عام، حتى إن المؤرخ الإسلامي لم يجد سبيلاً للتمييز بين الحضارتين إلا بمصطلح روم للشرقي ورومان للغربي وكلاهما انتماء لروما، وكذلك فحين قام شارلمان بإعلان أهم امبراطورية في العصور الوسطى، لم تكن نقطة مجده في بافاريا وسكسونيا، وإنما في تتويج البابا له في روما، ومراراً قامت روما بنزع التاج عن الأباطرة فكان ينحسر من امبراطور روماني عالمي إلى دوق سكسوني أو بافاري أو أقل، ومع أن شارلمان انطلق بدولته من باريس وآخن، ومع أنها جرمانية وليست رومانية، ولكنها ظلت على ألسنة الملوك والناس الإمبراطورية الرومانية قبل ان يضيف إليها أوتو العظيم اسم المقدسة، وقد ظلت كذلك ألف عام تغني لمجد روما قبل أن يقول فولتيير إنها لم تعد مقدسة ولا رومانية ولا امبراطورية.
ما بعد روما تدوين حقيقي لتاريخ الحضارة مسكون بعبق العواصم العتيقة في دمشق والقاهرة وبغداد والقدس وقراءة واعية لطبيعة التعايش الجميل في هذا الشرق البسيط، وفي الوقت إياه في اكتشاف طبيعة الإسلام المتوثبة والمهيمنة والقادرة مع ذلك على بناء التعايش بين المختلفين.
كان يريد أن يصور فيلمه في مكة، فالصراع التاريخي بنظره بين روما ومكة وليس بين محمد والمسيح، القيم الرومانية الأصيلة في الديمقراطيات وتعدد الآلهة والأديان متناقضة بالمطلق مع الديانة الإسلامية الصارمة في التنزيل المعصوم وعقيدة التوحيد.
لم يقدم بوريس جونسون قراءته للحضارة الإسلامية من مرصد الطوسي ولا اصطرلاب الجزري ولا زيج الصابئ، لم يكن يبحث عن وجه الحضارة في الآلات لقد كان يبحث عن وجه الحضارة في وجه الإنسان، كان يبحث عن روما، روما الجبارة بآلهتها وعفاريتها وأباطرتها وسيداتها الماكرات كان يبحث عنها في حارة النوفرة قرب الجامع الأموي وفي القدس عند باب المغاربة وحائط المبكى، وجلس طويلاً مع الدمشقيين والمقادسة والسكندرانيين، وصلى مع الناس في جامع الزهراء، واستمع طويلاً لصادق جلال العظم، وأثبت في فيلمه لقاءات عفوية وبسيطة وأخرى عميقة ودقيقة.
في الجامع الأموي سجلنا حلقة كاملة عن ضريح يحيى عليه السلام في قلب الجامع الأموي ودلالات ذلك، ووقفنا عند المذبح وجرن التعميد في وسط المسج،د وهو حضور مدهش لا يوجد في أي مكان في العالم الإسلامي، وقد حافظ عليه كل فقهاء الإسلام في قلب الجامع الأموي بكل تفاصيله الإكليروسية وفاء للعيش المشترك والتسامح الديني.
تحدث جونسون بإعجاب عن هذه الصورة واعتبرها قلقاً في مشروعه، فهي صورة من التسامح لا وجود لها في العالم، وهي وجه عاصمة الأمويين العريقة، ولكن التاريخ الإسلامي عموماً كان في سياق آخر حيث رسمت علاقاته بأوروبا بالحدود الدامية المريرة!
اختار جونسون أن يتحدث عن الإسلام من جامع الزهراء بدمشق لقد اقتنع أن من المفيد له ولمشروعه أن يخوض هذه التجربة الروحية، طلبت إليه ان يتوضأ فهذا شرط في الصلاة وعلمته سورة الفاتحة والتشهد، وفاجأني بأنه عرف ذلك عن جده التركي المسلم، وبالفعل تقدم جونسون في جامع الزهراء وحضر قبل الأذان واستمع الخطبة وأدى الصلاة، وعقد حواراً بعد الخطبة مع عدد من المصلين، وأثبت ذلك بالصوت والصورة في الحلقة الأولى من فيلمه، وهو يتحدث عن ارتحال روما إلى قلب دمشق مع الحضارة الأموية التي مدت ذراعها إلى قلب القارة العجوز، من الأندلس وطرقت أبواب باريس نفسها عند تخومها في بواتييه.
في كتابه حلم روما تحدث بوريس جونسون عن شاطئي المتوسط، وكيف تنازعت البحيرة الرومانية حضارتان لا تكادان تتفقان في شيء، وبات المتوسط مقسوماً إلى شاطئين متلاعنين، وكان شاطئ مكة يمتد من طنجة إلى الإسكندرية إلى سواحل الشام ثم غنم الحضن التركي والقسطنطينية، فيما لا يزال الشاطئ الشمالي رومانياً يمتد من شواطئ فرنسا حتى تخوم القسطنطينية.
وفي الواقع لا أملك تفسيراً لهذا الاندفاع الطامي فيه لإحياء مجد روما، مع أنه من أشد المعارضين للاتحاد الأوروبي، فقد رأى أن روما أكبر من شنغن والمحكمة الأوروبية، وكل روما لا تحتضن أوتاوا ونيويورك ولوس أنجلوس وجوهانسبورغ وسدني فهي روما مزيفة، وظل يغني لروما العظيمة روما أغسطس قيصر وتراجان وقسطنطين الكبير وشارلمان وأوتو العظيم، بوصفها الأم الشرعية لباريس وقرطاج وتدمر والقسطنطينية وفلورنسة، ثم لندن ونيويورك وأوتاوا وساو باولو، حيث تنتمي هذه الحضارات إلى روما كما ينتمي العالم الإسلامي إلى مكة.
لم يتردد جونسون أن قدم رأيه بوضوح في الحضارة الإسلامية وصرح أن شاطئي المتوسط كانا سياقاً واحداً، وكانت قرطاج والإسكندرية ودمشق وروما وأثينا وقرطبة سياقاً واحداً، ولكنها شيئاً ما أدى إلى تخلف الشاطئ الجنوبي عن أوربا لعدة قرون، ولم يترك ذلك للتكهنات، لقد حكم أن السبب هو فهم سطحي للدين ونرجسية طاغية مارسها الحكام والفقهاء الذين قاموا ببناء الجدران بعزيمة، ولكنهم لم ينجزوا ما يكفي من الجسور.
يقول جونسون لا بد أن هناك خطأ ما، وقال: قد لا يكون تشرشل والبابوات على حق، ولكن لا بد أن هناك ذرة صواب في تصريحهم أن الإسلام يقود نضالاً رجعياً ضد الحضارة، ولكن لا بأس فقد كان ملوكنا وباباواتنا منذ عهد قريب يقومون بإعدام الهراطقة وإحراق كتبهم.
حتى الآن نجح جونسون في الوصول إلى رئاسة الوزراء، وصار أشهر ذي شعر منكوش في العالم، ولكنه لم ينجح أن يكون أحد سفراء السلام بين الأمم، وعلى الرغم من رغبته العارمة في دخول هذا النادي، ولكنه غرق في أوحال السياسة، وتورط في مغازلة النازية الإنكليزية ضد الإسلام في تصريحاته الطائشة، وسار في الفلك المتشدد للمحافظين “موديل ترامب”، ما تسبب في تصاعد الإسلاموفوبيا وأثارت تصريحاته وتصريحات زملائه حملة غضب شديدة أجبرت قيادة حزب المحافظين أن تفتح تحقيقا عاماً حول شكاوى التمييز التي بلغت 747 شكوى منها 463 كانت بشان الإسلاموفوبيا، منها عدة شكاوى ضد جونسون نفسه، واعتذر جونسون علناً عن تعبيره المسيء بحق المرأة المنقبة، وأعلن أنه يتحدث بعفوية، وأن جده كمال علي كان مسلماً في حكومة السلطان العثماني، ومن غير المعقول أن يكون نازياً ضد نفسه وضد أجداده.
في صلاته في جامع الزهراء 2006 صارحني جونسون أنه ذاهب إلى لندن ليترشح لمنصب الماير عمدة لندن! فاجأني بطموحه، وبصراحة لم أتوقع أن يحقق هذا النجاح الأسطوري، وأن يقفز في سنوات قليلة من صحفي مغامر إلى رئيس لوزراء بريطانيا الامبراطورية التي لا تغرب عن كومنولثها الشمس.
سيرحل جونسون من وستمنستر، وسيفقد رصيده السياسي بسرعة، فالبهلوانيات لا تدوم طويلاً، ولكنني لا زلت مقتنعاً بأن هذه الروح العفوية وما تملكه من عمق تاريخي، وموهبة حضور هائلة مؤهلة بشكل كبير أن تكون إحدى جسور التواصل بين الإسلام والعالم، ومن يدري فقد نكون أمام مفاجأة جديدة لأكثر الساسة الأوربيين قدرة على بناء الجسور بين الشرق والغرب وتبادل المحبة.