د . منير شحود – الناس نيوز ::
ملاحظة : الصور المرافقة داخل المادة هي افتراضية لبعض المشاهير .
جمعتني إحدى اللقاءات بطالبتي السابقة، التي اختصت في الأمراض الجلدية وتفرغت لإجراء عمليات التجميل بالحقن. ومنذ اللحظات الأولى للقائنا، لاحظت أنها تنظر إلى وجهي بتمعُّن لم أعهده منها كطالبةٍ خجولة، ولم تلبث أن قالت بأن التجاعيد على جبهتي قليلة وأنني أحتاج فقط إلى ملء بعضها على جانبي العينين. للوهلة الأولى، انتابني إحساس بالصدمة، إذ لم يخطر ببالي أن ذلك قد يكون إجراءً ضرورياً لأمثالي، أو أن الحديث حوله ممكن ببساطة!
يعود العنصر التجريدي للجمال في الطبيعة وكائناتها، وحتى في الكون الفسيح، إلى الخط المنحني، الذي يتهادى ويتعرج ويلتف ويتشابك بلا بداية أو نهاية، وفي انحناءات لا حصر لها، ليشكل المظهر الخارجي لجميع الجمادات والكائنات الحية، في علاقة وثيقة مع الضوء وطيف ظلاله. من الخط المنحني اشتُقت نماذج بسيطة، لغايات هندسية وعملية، كالخطين المستقيم والمنكسر، وهما فقيران جمالياً، إلى درجةٍ قد لا تلفت الانتباه.
الجمال في الطبيعة وكائناتها، كما في الأعمال الفنية المستوحاة منها، مصدر فرحٍ داخلي ويبعث على البهجة عند الإنسان الذي تجاوز حاجاته الحياتية الرئيسة، وصار بوسعه النظر إلى كل هذا الجمال من حوله، إنه غذاء الروح التواقة إلى التسامي فوق مستوى الغرائز البيولوجية، في محاولة لإعادة اكتشاف تفاصيل جماليات الواقع وإغنائها بفنون خالدة، كالرسم والموسيقى، وقد صارت جزءاً لا ينفصم عن الحياة اليومية للبشر، ولو بدرجاتٍ متفاوتة.
بالعودة إلى الخطوط المنحنية، فإننا نجدها في جسم المرأة على نحوٍ جليّ، ويشكل توزعها وانتظامها وتناظرها تلك الاستدارات التي تعطي لهذا الجسم جماليته النسبية. الخطوط المنحنية أقل وضوحاً في جسم الرجل، الذي يمكن أن يعوض عن ذلك بتنمية العضلات لتشكيل المزيد من الانحناءات، وقد أبدعت فنون النحت الكلاسيكية، الإغريقية والرومانية، بإظهار جماليات الجسم البشري، المذكر والمؤنث، بصورة أقرب إلى المثالية.
وعلى مرّ التاريخ، كان الاهتمام بالمظهر الخارجي عند النساء امتداداً للرغبة في استعراض المفاتن الأنثوية، كمكوّن بيولوجي أساسي من أجل عملية التكاثر وطقوسها المعقدة، واشتراطاتها الاجتماعية لاحقاً، من خلال العناية بالمظهر الخارجي، كتسريح شعر الرأس وإزالة الأشعار في مناطق الجسم المختلفة والوشم ووسائل الزينة وغيرها.
أما اللباس فقد أدى دوراً مزدوجاً، لجهة إبراز جمالية الجسم الأنثوي من جهة أو إخفاء عيوبه من جهة ثانية، فضلاً عن وظائفه الوقائية والمتعلقة بطبيعة عمل المرأة والحياة داخل المنزل وخارجه. كما عكس اللباس أيضاً وضع المرأة الاجتماعي والفروق الطبقية في المجتمع، إلى أن سمح الإنتاج الصناعي الغزير بتوفير المزيد من نماذج اللباس وتعميمها على نطاقٍ واسع، كموضة، ولو أن ذلك كان على حساب الجمال ذاته في بعض الأحيان.
في هذا الصدد، يمكن أن أشير إلى نموذجين غير موفقين للباس/الموضة، برأيي، ولم يمضِ عليهما وقت طويل. الأول تمثّل بانتشار موضة “الكتافات” في ثمانينات القرن الماضي، عن طريق وضع الحشوات للفساتين والبلوزات في منطقة الكتف، ما أخفى الاستدارة الطبيعية للكتف الأنثوي وأزال التناظر بين استدارتي الكتف والورك. المثال الثاني هو موضة السراويل منخفضة الخصر، التي سادت في بدايات هذا القرن، فحجبت انحناءات الخصر وزادت من تبارز البطن، وانعكس ذلك على جمالية الجسمين المذكر والمؤنث على حد سواء.
لكن اللافت للانتباه هو التعميم الواسع للموضة، كل موضة، في مجتمعاتنا، ما يعكس درجة أقل من تمايز الشخصيات وتطورها، وسهولة انقيادها وفق غريزة القطيع. يعكس ذلك أيضاً مستوى منخفضاً للحريات الاجتماعية، وحتى السياسية.
أما عمليات التجميل الجراحية فهي حديثة نسبياً، وترتبط بتقدم التقنيات الطبية وتصنيع المالئات في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت قد اقتصرت في بداياتها على إصلاح التشوهات الخلقية أو الناتجة عن الإصابات، علاوة على مشاكل التقدم في السن. ثم اتسعت إجراءات التجميل لتشمل إعادة تصنيع الأعضاء الظاهرة ونحت الجسم، وفق مقاييس محددة ساعدت وسائل التواصل الاجتماعية في انتشارها على نطاق واسع.
أذكر أنه في أحد أعداد مجلة “طبيبك” ذائعة الصيت، التي تأسست في منتصف خمسينات القرن الماضي بإشراف الدكتور الحلبي صبري القباني، شكت قارئة بأن أحد شفري عضوها التناسلي أكبر من الآخر، فكان جواب الدكتور الأخصائي نوعاً من التهكم: “وهل ستعرضيه في معارض الفن والجمال؟!”. لو طُرح مثل هذا السؤال في الوقت الحاضر لكان الجواب عادياً ومشروعاً، فقد توسعت خيارات الناس في التعامل مع أجسامهم، بما في ذلك عمليات التجميل ذات الصلة، وتم تجاوز معظم اشتراطات الطب التقليدي.
فالتجميل أصبح عملاً فنياً – طبياً، ويحتاج المعالج إلى مستوى محدد من الثقافة الفنية، مثلما يحتاج إلى معرفة أولية بتشريح جسم الإنسان ومقاييسه. يصبح هذا الشرط ذا أهمية خاصة في تجميل الوجه، نافذة جسم الإنسان المفتوحة على العالم، حيث الدقة والخبرة ضروريتان لئلّا تنقلب إجراءات تحسين الملامح إلى عكسها، فتتحول الحواجب المصنّعة، على سبيل المثال، إلى قرون صغيرة لتحدي الرجال عوضاً عن نيل إعجابهم، أو أن تعجز الشفاه عن الابتسام بحرية وممارسة وظائفها البيولوجية، وهنا يتجاوز المظهر كونه مجرد موضوع شخصي، ويصبح ذا صلة بالذوق العام.
لماذا ينتشر كل هذا الشغف بالتجميل والاهتمام بالمظهر، وفي بلد، كسوريا، حيث وصلت نسبة الفقر إلى حوالي 90%؟ لا شك بأن ذلك يحدث في معظم الأحيان على حساب الاحتياجات الحياتية الأخرى، وأنه وسيلة لبعض النساء (والرجال) لزيادة الثقة بأنفسهن، أو لزيادة فرص حصولهن على مكاسب مهنية واجتماعية. لكن انتشار مثل هذه الإجراءات التجميلية بلا ضوابط فنية وصحية قد يطيح بالهدف الأساس منها، وبخاصة على المديين المتوسط والبعيد.
كما قد ينطوي الاهتمام الزائد بالمظهر الخارجي على خواءٍ في الشخصية، التي يحتاج إغناؤها إلى العمل الدؤوب من أجل تنمية مختلف جوانبها، ومنها اتقان فن التعامل مع الآخر ولطف الحديث والحضور اللافت والثقافة العامة واللباقة و”الإتيكيت” ورشاقة الحركة، إذ تغني جميعها الشخصية الاجتماعية للمرأة والرجل، وتضفي عليها المزيد من الجمال والكمال.