الجزء الأخير من مقالة السفير الأمريكي الأسبق في سوريا روبرت فورد
هدّأ العقيد عبد الجبار العكيدي الرجال الثائرين بعد دقائق قليلة، وعاد للداخل، معتذرا بأن من الصعب السيطرة على كل الشباب. هل كان ذلك مجرد استعراض مرتب؟ ربما. ولكنني لم أقابل مطلقاً خلال عملي لعقود في الشرق الأوسط بأي شخص في مثل مكانة العقيد العكيدي الاجتماعية يقبل أن يرتب عن قصد استعراضا ينقص من قدره أمام جمهور كبير من الأجانب والسكان المحليين. عندما عدت إلى واشنطن، نقلت القصة، مبيناً كيف أن الشباب تجاوزوا الأعراف الثقافية البارزة، متجاهلين مكانة العكيدي في المجتمع السوري كعقيد ومكانته الاجتماعية كرجل أكبر سناً وأكثر خبرة. والحقيقة أنني حذرت، وليس من دون مبرر، أن يصف السوريون انتفاضتهم بالثورة. واستنتجت أن القادة مثل العكيدي قد لا يستمرون طويلاً إذا لم نساعدهم أكثر في هذا التنافس على النفوذ داخل المعارضة المسلحة. ولكن رد الفعل الرسمي الوحيد الذي تلقيته كان تحذيرا من مكتب الأمن في وزارة الخارجية بأنني قد خرقت تعليمات الوزارة بدخول سوريا دون ضابط أمن أمريكي.
لم تكن واشنطن في ذلك الوقت مستعدة لالتزام أكبر بالصراع السوري، وكانت المعارضة المسلحة قد تعرضت لضربة قوية عندما استولى حزب الله على بلدة القصير التي سيطر عليها المتمردون بالقرب من الحدود اللبنانية في مايو 2013. واستغل مقاتلو جبهة النصرة ذلك القتال اليائس ليستولوا على عدة معابر من الجيش السوري الحر على طول الحدود التركية بحيث يمكنهم فرض ضرائب على الشاحنات الواردة وضمان تدفق ثابت للإيرادات. ونجح العكيدي ومقاتلوه في تثبيت خط القتال ضد الجيش السوري في حلب، وحافظوا على حصار استمر لشهور لقاعدة منغ الجوية بالقرب من حلب. ولكن في ذات صباح في أوائل أغسطس، جئت إلى مكتبي في وزارة الخارجية لأرى تقارير تفيد بأن مطار منغ قد سقط أخيراً وفوجئت بصور العكيدي وهو يقف بجانب القائد الميداني لداعش أبو جندل المصري يحتفلان بالاستيلاء على القاعدة.
لقد كنا نكافح من أجل بدء مفاوضات بين المعارضة والحكومة، ولا شك أن التعاون بين أصدقائنا في الجيش السوري الحر والقاعدة وفروعها كان سيلحق أذى بجهودنا تلك. لقد كانت الصور مخيفة. اتصلت بالعكيدي عبر الهاتف في حلب وأخبرته أن هذا النوع من التعاون سيضرّ بشدة بسمعة الجيش السوري الحر في واشنطن وفي أماكن أخرى.انفجر العكيدي في سلسلة من الشتائم، التي لا بد أنها أسعدت الحكومة السورية وداعميها الروس والإيرانيين الذين كانوا يستمعون إليها. لم تكن لغتي العربية جيدة ولكنني فهمت تحذيره الصريح بأنه كان في قتال يائس ضد القوات الهائلة للنظام وأن الأمريكيين لم يفعلوا شيئاً للمساعدة، وأن الوجبات الجاهزة لم تكن لها قيمة ولو ضئيلة.
ثم أخبرني بشكل مباشر أنه إذا لم يفعل الأمريكيون المزيد، فعلينا أن نصمت. وأكد أنه كان يحاول البقاء على قيد الحياة. تذكرت تحذيره لاحقا حين رأيت مقاطع فيديو صورته وهو يشيد بالنصرة وداعش. لم يكن العكيدي متطرفاً إسلامياً، وكانت تلك الرسائل محاولة منه لدرء هجوم متطرف على قواته. لقد كان يركز على محاربة النظام. ولكن تلك الرسائل فشلت، ولسوف يتمكن الجهاديون بمواردهم المتفوقة من التغلب عليه النهاية وعلى جميع ضباط الجيش السوري الحر.
كانت الولايات المتحدة قلقة من أن الأسلحة الصغيرة المقدمة لمقاتلي العكيدي يمكن أن تقع في أيدي المتطرفين في خضم المعركة وقد أعاقت تقديم مساعدات كبيرة لهذا السبب. ومع ذلك، من خلال حرمان أشخاص مثل العكيدي من الدعم الكبير، فقد خلقنا نبوءة وحقّقناها، فبحلول أواخر عام 2015، تمت السيطرة على هؤلاء القادة ومقاتليهم ، وتم القضاء عليهم في نهاية المطاف من قبل الجماعات التي تبث أجندات طائفية ورفضت المفاوضات السياسية، وذلك بمساعدة تركيا وقطر والنظام في سوريا نفسه.
العكيدي وسليمان الآن لاجئان في تركيا. إنهما أكثر حظاً من رزان، التي بقيت في الغوطة الشرقية والتي اختطفت مع ثلاثة من زملائها في ديسمبر 2013 من قبل متشددين إسلاميين, وهم الأعداء أنفسهم الذين توقعت أنها ستضطر في النهاية إلى القتال ضدهم.اختفى الأربعة جميعًا، ولم يعثر عليهم حتى بعد مرور أكثر من عامين على استعادة النظام السيطرة على الغوطة الشرقية، حيث لجؤوا، كما لم يعثر على جثثهم.
تقاسمت رزان آمال ملايين السوريين في عام 2011 من أجل سوريا أفضل، وشاركت مصير عشرات الآلاف من المدنيين الآخرين الذين اختطفوا و “اختفوا” في الحرب. كانت واحدة من أصعب الأشخاص الذين قابلتهم مراساً منذ 30 عاماً في المنطقة وأكثرهم بصيرة.
واليوم، يحاول الانتهازيون بالفعل إعادة كتابة تاريخ الانتفاضة السورية التي بدأت عام 2011، ووهم يتهمون الحركة الاحتجاجية بالطائفية منذ البداية، ويتهمون الأمريكيين بأنهم هم من حرضوا على الاحتجاجات من أجل الإطاحة بالأسد. هذا التحريف خاطئ ويقف في وجه السوريين البارزين والشجعان الذين يواجهون أحد أكثر الأنظمة وحشية في حقبة ما بعد الحرب العالمية من السلطة.
وثمة الآن من يقول إنه كان من الأجدى أن يتجنب الأمريكيون أي تعبير عن دعم الحركة الاحتجاجية والمعارضة السورية. أنا أفهم تلك المشاعر، ونحن بالتأكيد لم نساعدهم كثيراً في قضيتهم. غير أن هذا الرأي يكافئ القول بأنه كان على الأمريكيين مثلي أن يغلقوا أفواههم، بينما يذبح النظام عشرات أو مئات الآلاف من السوريين المحترمين.
إن القول بأنه كان يجب أن تكون هناك مفاوضات مع حكومة الأسد هو تهرب كامل من الحقيقة، فقد حاول المعارضون السوريون والولايات المتحدة لسنوات إحضار الجميع، بمن فيهم الإيرانيون، إلى جنيف في يناير وفبراير 2014، بينما كانت حكومة الأسد تقول بوضوح إنه لن يكون هناك مفاوضات سياسية. ولذلك فإن على أولئك الذين يفترضون تفوقا سياسيا أو أخلاقيا أن يكونوا على الأقل صادقين بشأن تداعيات موقفهم المفضل.
نشرت في موقع نيولاينز
ترجمة الناس نيوز