حاوره محمد برو – الناس نيوز ::
كان اللقاء مع فخامة الرئيس التونسي الأسبق د. منصف المرزوقي في إسطنبول، عاصمة المنافي التي يلتقي فيها المعارضون العرب ويتحاورون بحرية، تذكرنا إسطنبول اليوم بفضاء الحرية، الذي كان ينعم به المثقفون والمعارضون المنفيون، في العاصمة اللبنانية بيروت بالأمس القريب، قبل أن يستولي حزب الله على الفضاء العام، ويصبح لبنان “الذي كان ذات يوم رئتنا الأخيرة”، ميدانا لصراع عصابات وطوائف.
ببساطته المعهودة وتواضعه الجم، التقى الرئيس التونسي الأسبق د. منصف المرزوقي بالعديد من المثقفين والسياسيين السوريين والعرب، ووقع هناك كتابه الجديد “المراجعات والبدائل”، في تقديمه للكتاب والإجابة على الأسئلة التي وجهت له، كان حريصاً على مفرداته العربية وبعيداً عن إعجامها بألفاظ أجنبية، إنه يعجب ممن يمتلك ناصية لغة من أجمل وأبلغ لغات الأرض كاللغة العربية، أن يكون مضطراً لتلوينها بألفاظ من لغة أخرى، كان صوته واضحاً أن الطريق إلى الحرية طويلة، وأنه يؤمن بالكفاح في الزمن الممتد، وأن هناك مشكلات كبرى ربما توازي أزمة الديكتاتوريات في الوطن العربي، أو تنافسها في الأهمية، كمشكلة المياه والدفيئة والأمن الغذائي، مشكلات ستكون نتائجها كارثية، إن لم يولها هذا الجيل الشاب اليوم ما تستوجبه من اهتمام بالبحث والعمل المبادر.
• س. كانت انطلاقة الربيع العربي من تونس وتلتها مصر وليبيا وسوريا، وكان يمكن لهذه الثورات أن تتوالى وتسقط بفعلها أنظمة قمعية كأحجار الدومينو، ما يعني زلزالاً سياسياً في المنطقة العربية، برأيكم ما هي العوامل الرئيسة “داخلياً وخارجياً” التي كانت وراء إفشال هذه الثورات وبروز الثورات المضادة.
كان هناك قرار إقليمي من طرف الدكتاتوريات، لوقف موجة كان بوسعها كنسهم. هكذا تآمرت الامارات والسعودية على اليمن ومصر وليبيا وتونس بالمال والسلاح وتكفلت إيران وروسيا بسوريا. أسباب داخلية أساساً رفض البرجوازية التي تقود الديمقراطية في كل البلدان ثورتنا الديمقراطية، لأنها حملت الإسلاميين للحكم ديمقراطياً. لذلك فضلت التحالف مع الاستبداد.
• فخامة الرئيس حسب رؤيتكم وتجاربكم الطويلة في صفوف المعارضة منذ الشباب الأول، وصولاً إلى كرسي الرئاسة، كم تحتاج هذه الشعوب التي انكسرت “الشعب السوري والمصري نموذجاً” للنهوض ثانية بوجه حكامها؟
الشعوب الغربية قبلت بالعيش تحت هتلر وموسوليني وفرانكو. حتى الفرنسيون قبلوا إبان الحرب العالمية الثانية بالعيش تحت دكتاتوريات المارشال بيتان. اتركوا للشعوب العربية الحق في الخطأ والوقت الكافي للتجربة.
• عقب انفلات المارد من القمقم وخروج الناس إلى الشوارع محتجين، هل يمكن لتلك الأنظمة إعادته إلى بيت الطاعة ثانيةً، واستمرار تلك الأنظمة بسياساتها التي كانت عليها قبلها؟
أبداً، انطلق المشروع ولن يقف. إنه شبيه بمشروع انطلاق الحرب من أجل الاستقلال. كم من معارك خسرناها ضد الاستعمار الخارجي قبل أن نربح الحرب. نفس المصير مع الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد.
• فخامة الرئيس التونسي، أشرتم في كتابكم “المراجعات والبدائل” إلى أهمية اطلاع جيل الشباب والمشتغلين بالشأن العام، إلى قضايا كبيرة، من الخطورة بمكان أغضاء الطرف عنها، كالأزمة المائية القادمة، وأزمة الغذاء وخطورة امتلاك القوى الخارجية لحبوبنا وبذارنا، وتركنا تحت رحمة قراراتها، ما هي السبل التي تمكننا من مواجهة هذه القضايا دون الاضطرار لمواجهة السلطات الحاكمة
إنها مسألة حياة أو موت حتى بالنسبة للأنظمة. يجب على كل القوى أن تضع هده المشاكل كأولويات مطلقة، أي يجب حتى على الحركات الديمقراطية والمؤسسات المدنية أن تعيد برمجة الأولويات. على كل حال الضرورة الملحة هي التي ستجبر الجميع على التأقلم، وإلا فإن حجم الكوارث المنتظرة سيجعلنا نفيق. ما أتمناه ألا يكون ذلك بعد خراب البصرة.
• يحار المتابع للشأن التونسي في الانتقادات التي توجه لحزب النهضة ولشخص رئيسه راشد الغنوشي، بين الواقعية أو المبالغة في نسب الفشل التونسي إليهم، بصفتكم الرئيس التونسي في تلك الفترة ما حقيقة الدور الذي لعبه تيار النهضة فيما وصلت اليه تونس اليوم؟
دور سلبي للغاية أساساً التساهل مع النظام القديم إبان حكم الترويكا، ثم التحالف معه ضدي في انتخابات 2014 ثم المشاركة في ديمقراطية فاسدة ما بين 2014 و2919 … وحتى اعتبار الانقلاب فرصة لانطلاقة جديدة أي والله …. كل هذا بدافع واحد حماية النهضة من القمع الذي حدث في مصر، والنتيجة هي تحقيق أخشى ما كانت تخشاه النهضة.
• في لقائكم بمثقفين ومعارضين في إسطنبول، أشرتم إلى مفهوم سبق أن كتب حوله فلاسفة ومفكرون، وهو أن الثورة لا تنتهي بمجرد انتفاضة لإسقاط رأس النظام، بل هي سلسلة طويلة من الثورات المتوالية، تفضي إلى تغيير في القيم والمفاهيم وتطور الآليات، ولا تتوقف الثورة عن إنجاز مهامها في زمن قصير، وسميت هذا بالنضال “في الزمن الممتد”، هل يدعوا هذا بالضرورة إلى مهادنة الأنظمة القائمة مرحلياً، والقبول بحلول أو بمكاسب جزئية؟
أبدا …لا أمل لأي مستقبل في ظل أنظمة قمعية فاسدة وعميلة وأساساً فاشلة. على عكس النهضة التي حاولت الأمر وأثبت الواقع فشل هذه الاستراتيجيات، يجب ألا نحيد أبداً عن طلب الاستقلال الثاني أي دولة القانون والمؤسسات في خدمة شعب من المواطنين.
• يتبادر للذهن سؤال الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، ما هي أهم الفوارق التي عاشها عند الانتقال من صفوف المعارضة السياسية إلى كرسي الرئاسة؟
تقريبا لا شيء. لم تغير الرئاسة مواقفي وتصرفاتي. الفرق الوحيد في مجال العمل اكتشاف أمر متوقع، وهو أن الحكم أصعب وأخطر من المعارضة، لكنه لا يقل تعقيداً، والبشر هم نفس البشر أيا كان الموقع.
• كيف تعامل المناضل منصف المرزوقي مع آليات الحكم ومقتضيات السلطة حين تسلم مقاليد الحكم في تونس؟
أساسا بالمحافظة على المبادئ التي ناضلت من أجلها، والباقي صراع يومي من أجل تحقيقها على أرض الواقع.
• فخامة الرئيس منصف المرزوقي، ما هو أصعب شي وأخطر شيء قد يصادفه المعارض حين وصوله للسلطة؟
الوقوع في غرامها وصعوبة مفارقتها. لذلك مرنت نفسي من البداية على العودة لبيتي كل نهاية أسبوع وطبخ طعامي مع زوجتي والاعتناء بحديقتي ومواصلة الكتابة والمشي في الطريق العام ولو مصحوباً بحارس أو اثنين هكذا لما انتهيت من القصر والخدم والحشم والأبهة التي تصحب الحكم، عدت لحياتي العادية كأنني لم أغادرها يوماً.
• في صفحات كتابكم الأخير “المراجعات والبدائل” يلمس القارئ أسىً شفيفاً وخيبات من خذلان رفقاء الدرب أو تعجلهم في التشكيك وكيل الاتهامات، كيف عانى الرئيس منصف المرزوقي من هذه الخيبات، وكيف تعامل معها؟
يكذب من يقول إن هذه الأمور ليست شديدة الوجع خاصة تقلب من كنت ولي نعمتهم، لكن لحسن الحظّ ثمة الذين يواصلون المودة والوفاء حتى بعد أن فقدت السلطة. هؤلاء يعوضوك كثيراً عن خسارة اللئام. وخاصة يمنعونك من الإحباط ومن كره البشر.
• تعاني أسرة المناضل السياسي في وطننا العربي من سلسلة هائلة وطويلة من الضغوطات، ما هي أهم التأثيرات التي طرأت على أسرة المناضل منصف المرزوقي حين أصبح رئيساً للبلاد؟
الأبطال الحقيقيون والمجهولون في معاركنا من أجل الحرية والكرامة هم الأزواج والأطفال للمناضلين لأن معاناتهم كبيرة وصامتة ولا تلقى التكريم الذي لا يلقاه إلا الأب إذا نجح. كنت أشعر دوماً بعقدة ذنب لما كلفت من أوجاع لزوجتي وابنتي وإخوتي. أنا جد ممتن لهم وحاولت دوماً أن أعبر لهم بهذا الامتنان والاعتذار.
• أسستم في عام 2014 “المجلس العربي للدفاع عن الثورات والديمقراطية”، وكأنكم استشرفتم أن هذه الثورات ستكون بمواجهة ثورات مضادة، تعمل على إجهاضها وهكذا حصل، إلى أين وصل هذا المجلس اليوم بعد أن أجهضت جميع ثورات الربيع العربي؟
نحن نعمل ما نقدر عليه لتجميع القوى الديمقراطية العربية للتفكير والتنسيق والعمل على قدم وساق لاجتماع مقبل في شهر يونيو/حزيران المقبل. وسنواصل لنكون حلقة في سلسلة لا تعرف لها بداية او نهاية.
• أشرتم في حديث سابق أنكم تعاملتم في أكثر من موقف عام بنفسية الطبيب متأثراً باختصاصكم الأولي، كيف تجلى هذا في يوميات الرئاسة التونسية؟
طبقت منهجية الطبيب المطالب بالحلول وبالتعلم من التجربة، ولا يسب المريض الذي لا يبرأ بعد تناوله الوصفة ويحمله مسؤولية الفشل. هذا بالضبط منطق سياسيي الاستبداد.
• فخامة الرئيس، كيف ينظر السياسي والرئيس الأسبق إلى مستقبل الثورة السورية، وما أهم المهام التي عليها أن تنجزها ولو مرحلياً؟
أعظم ثورة في تاريخ العرب واجهت أضخم مؤامرة في تاريخ العرب، وكلفت أبهظ ثمن في تاريخ العرب، تاج رأس الثورات العربية ولا خيار لها غير التواصل إلى حين تحقيق أهدافها المشروعة.
• لو عاد الرئيس الأسبق منصف المرزوقي قريباً إلى قصر الرئاسة مرة أخرى ما هو الشيء الذي سيتداركه من تجربته السابقة؟
سأفعل نفس الشيء لأن بديل المبادئ المكيافيلية وهذه لم ولن تكون خياري.
• في كلمة أخيرة بعد أن شدد فخامة الرئيسي الأسبق منصف المرزوقي، وكرر في خطابه للشباب محملاً إياهم مسؤولية إكمال الطريق وعدم الركون لليأس، ما هي أهم القضايا التي عليهم التشبث بها والإصرار عليها بشكلٍ أولي؟
أجمل تعريف للوطن أنه الأرض التي ورثناها من أجدادنا وندين بها لأحفادنا. المطلوب منهم التحرك فردياً وجماعياً ليكونوا أوفياء لتضحيات أجدادهم …وليوفروا على أحفادهم مثل هذه التضحيات فإلى الأمل، وإلى العمل، ولا بد لليل أن ينجلي.