[jnews_post_author ]
أعادت حادثة قتل أستاذ التاريخ في المدرسة الفرنسية قرب باريس الضجة في تناول مسألة التشدد الإسلامي، والتعصب وحركات الإسلام السياسي وأوضاع المسلمين في أوروبا والعالم، و سوف يحلو للكثيرين قراءة الحادثة كل حسب رؤياه وفكره السياسي، ومن ثم تطويعها لتخدم هذا الفكر أو هذا التوجه.
ربما لعب توقيت الحادثة دورا كبيرا في إثارة الضجة الإعلامية حولها من قبل كل الفرقاء باعتبارها جاءت بعد مضي أقل من شهر على خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون، والذي أشار فيه بحدة ولأول مرة إلى أن الإسلام يعيش أزمة، وأنه على المسلمين أن يفعلوا شيئا لتخفيف حدة التطرف الإسلامي والعنف الذي ينجم عنه في فرنسا وأوروبا والعالم عموما, إذ بادر البعض لاعتبار عملية القتل بمثابة الرد من الجماعات الإسلامية المتطرفة على خطاب ماكرون وعلى الغرب عموما , أو أنها حادثة مفتعلة من الحكومة الفرنسية لتبرير ممارسة سياسات أمنية رادعة بذريعة هذه الجريمة, تجاه المسلمين في فرنسا وقطع دابر المتطرفين الإسلاميين بشدة، بعد مقتل الأستاذ الفرنسي في مدرسته من قبل تلميذ لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره وهو مسلم فرنسي من أصول شيشانية . الإسلام يعيش أزمة! هذا ما يقوله ماكرون ولكننا لم نكن أبدا بحاجة لأحد كي يذكرنا بذلك فالإسلام منذ نشوء ما سمي بالصحوة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن يعيش هذه الحالة العدائية مع الغرب، والتي أخذت أشكالا عديدة على مدى نصف قرن، ولكنها نجحت في صنع هذا الشرخ الكبير بين المسلمين وأوروبا والغرب عموما، ويجب أن لا ننسى أن الحكومات الغربية لعبت دورا مساعدا في ترويج الإسلام السياسي تحت ذريعة دعم الإسلام المعتدل كحل سياسي لأزمات الحكم في المنطقة العربية، والإسلام المعتدل بنظرهم هو خط الإخوان المسلمين الذي أثبتت التجربة مؤخرا أنه لم يكن معتدلا على الإطلاق، وأنه في الجوهر لا يختلف كثيرا عن الحركات الإسلامية الأصولية والجهادية، لا سيما بعد أزمة عزل الرئيس محمد مرسي في مصر وإبعاد جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة في القاهرة، الأمر الذي دفع الحركة إلى مزيد من التجييش الطائفي النظري والمسلح في أحيان كثيرة، في عمليات عنف نفذتها مجموعات إسلامية مسلحة في سيناء بالتنسيق مع الإخوان المسلمين في مصر.
رغم انسحاب الحكومات الغربية عن فكرة الدعم هذه في المنطقة العربية انسحابا جزئيا وليس كليا فالأمر متفاوت بين بلد أوروبي وآخر، فإن المسلمين المتشددين في الغرب يعيشون أزمة حقيقية، أو يتسببون بأزمة عنف كبيرة جراء تنفيذ عمليات هجوم بالأسلحة الفردية أو عمليات تفجير ضخمة في عدة مدن أوروبية في السنوات العشر الأخيرة، ناهيك عن حالات الاعتداء الفردي، مع أن نسبة هؤلاء المتطرفين الإسلاميين في أوروبا مقارنةً بالمجموع العام لعدد المسلمين في أوروبا لا يبدو رقما كبيرا، ولكن لهؤلاء حاضنة اجتماعية كبيرة في دول مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا يتنفسون منها، ناهيك عن الدعم المالي الكبير الذي كانت تحظى به منظمات إسلامية تحت مسمى جمعيات خيرية إرشادية أو منظمات ثقافية إسلامية مدعومة من حكومات إسلامية، قبل أن يتم تجفيف الكثير من مصادر هذا الدعم في ألمانيا وفرنسا وهولندا في السنوات الأربع الأخيرة بعد فضيحة الجمعيات التركية والقطرية الممولة بسخاء، والتي ثبت أنها تقوم بنشاطات محظورة، لا سيما على مستوى التحريض ضد المسيحية والمسيحيين والتشجيع على العمليات الإرهابية .
الأزمة كبيرة و تبدو عملية قتل المدرس الفرنسي إحدى تجلياتها المباشرة غير أن ما يحدث تحت الرماد من تحريض ضد الغرب وتربية الشباب على الفكر المتعصب والتكفيري الكاره للأديان الأخرى في المدن الأوروبية حيث توجد التجمعات الكبيرة للمسلمين، هو أمر بالغ الخطورة لأنه يجعل عملية المعالجة لهذا الفكر المتطرف عملية بالغة الصعوبة أمام الحكومات الأوروبية، بسبب الأعداد الكبيرة للمتطرفين الشباب المغرر بهم خصوصا وانتشارهم في معظم المدن الأوروبية وسهولة قيامهم بعمليات بالأسلحة الفردية البيضاء مثل عملية قتل الأستاذ الفرنسي التي تترك آثارا مفجعة في المجتمعات الأوروبية، وتزيد من الحقد الشعبوي اليميني المتطرف والحس العام أيضا على المسلمين والإسلام، لا سيما بعد أن ازدادت أعدادهم بعد موجات الهجرة الأخيرة إثر أحداث الربيع العربي، و بما أن إمكانية التأثير على المراجع الفقهية في بلدان المصدر وعلى رأسها الأزهر في مصر للحد من نشر هذه الثقافة التكفيرية العنصرية، فإن العبء الأكبر يقع على عاتق الحكومات الأوروبية، بالتنسيق مع الجاليات المسلمة لمنع وصول أي أموال مساعدات لكل تلك الجمعيات الأصولية الإسلامية المتشددة الموبوءة والعنصرية، ناهيك عن ضرورة إلغاء هذه الجمعيات ومنع انتشارها في أوساط الشباب العربي والمسلم في الجاليات المسلمة في أوروبا، وتعديل القوانين الجنائية بما يسمح أكثر بتضييق الخناق على هذه المجموعات التكفيرية المنتشرة بقوة في تلك الجاليات .
لم يعد من النافل القول إن وهم الإسلام المعتدل وضرورة دعمه سياسيا لمنع وصول التيارات المتطرفة إسلاميا للوصول إلى الحكم في البلدان العربية والمسلمة، أصبح أمرا مثيرا للسخرية بعد كل هذه التجارب المريرة التي تثبت أن ما سمي بالاعتدال الإسلامي على مدى نصف قرن هو الذي ساهم في إنتاج وبنسبة عالية كل هذه الأفكار العدوانية تجاه الغرب، الذي تقابله عدوانية معاكسة من أقطاب وتيارات اليمين المتشدد في الغرب، والذي ينمو على اجترار معاداته للمهاجرين ولا سيما المسلمين منهم .
لا يمكن لكل هذه العمليات الإجرامية المسلحة التي يقوم بها المتطرفون الإسلاميون في أوروبا أن تترك أثرا سياسيا أو اجتماعيا تدميريا في الدول الأوروبية بسبب قوتها كدول، ومنعتها الأمنية والاجتماعية والسياسية في هذه الحرب المعلنة بين التطرف والديمقراطية، ولكن الآثار المادية والنفسية الاجتماعية المخرشة التي تتسبب بها مثل هذه العمليات تترك ندوبا كبيرة في المجتمعات الأوروبية، كما تترك أثرا بالغ السوء على مستقبل حياة الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا وأمريكا أيضا، الأمر الذي لا يمكن التنبؤ بسهولة بعواقبه على المدى البعيد، وهي عواقب في أحسن الأحوال ليست حميدة ولا تبشر بالخير.
——————————————————————————–
رفيق قوشحة