أمير سعادة – الناس نيوز :
في الأيام القليلة الماضية ساد ارتباك شديد بين الفصائل المسلحة المدعومة من قبل تركيا، بسبب تدهور قيمة العملة التركية التي باتوا يتعاملون بها منذ عام ونيف. كان قرار الانتقال من العملة السورية إلى الليرة التركية ناتجاً عن تدهور العملة الوطنية بدمشق، ورغبة منهم طبعاً في إرضاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لم يتوقعوا هذا الانهيار السريع، الذي أربك أردوغان ذات نفسه ووضع أنصاره السوريين في موقف حرج. التراجع سيؤدي إلى إغضاب أردوغان، والثبات على الليرة التركية ستكون نتائجه وخيمة على اقتصاد الشمال. السوريون وجدوا نفسهم في مأزق، تماماً كما كان الحال مع أجدادهم، الذين ظلّوا يتعاملون بالعملة التركية حتى بعد انهيار الحكم العثماني في بلادهم، قبل 100 عام، ضاربين بعرض الحائط كل التعليمات التي وردت من حكومة الملك فيصل الأول بدمشق، التي ناشدت أهالي البلاد بضرورة التخلي عن العملة التركية ابتداء من 1 كانون الثاني 1919. ولكنها لم توجد لهم بديلاً يومها، مما اضطرهم إلى اللجوء إلى الجنيه المصري في تعاملاتهم التجارية، أو إلى الجنية الإسترليني الذي غزا الأسواق السورية مع دخول الجيش البريطاني في نهاية الحرب العالمية الأولى. وصارت الأسعار يومها تكتب بهذين العملتين غير السوريتين، وكان التجار يقبلون أي عملة توضع أمامهم، فرنسية كانت أم أمريكية. ومن وقتها درجت عبارة “الحساب بالبنس” (PENCE) وهي أصغر عملة نقدية بريطانية، التي صار السوريون يعتمدون عليها خلال عمليات حساباتهم. وقد أطلق السوريون عبارة “مصاري” على النقود يومها، وهي مشتقة عن كلمة “مصري،” ولا تزال هذه العبارة دارجة بين السوريين حتى اليوم.
يوم انسحاب الجيش العثماني من سوريا، فقدت العملة الورقية قيمتها، ولكن النقود المعدنية العثمانية حافظت على قيمتها، وتحديداً “المجيدي” الذي ظل متداولاً في أسواق دمشق وحلب. أسس الملك فيصل الأول وزارة للمالية، وسمّى العلامة فارس الخوري وزيراً للمال في حكومة رضا الركابي ولكن وزارته لم تصدر عملة سورية حتى شهر آب / أغسطس من العام 1920، أي بعد أسابيع قليلة من سقوط الحكم الفيصلي في سوريا، إثر معركة ميسلون. ثم جاء الانتداب الفرنسي الذي فرض بقوة السلاح على سورية ولبنان، وصدرت من باريس عملة سورية مرتبطة بالفرنك الفرنسي، كانت قيمة الليرة السورية فيها تعادل عشرين فرنكاً فرنسياً. وكانت الليرة السورية تقسم يومها إلى 100 قرش، وصارت قيمة الدولار الأمريكي تعادل 54.7 قرشاً سورياً.
أول هزة عنيفة تعرضت لها العملة السورية كانت سنة 1925، عند اندلاع الثورة الوطنية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش من جبل الدروز. وقد أدت هذه الثورة إلى حرق ورش الإنتاج في الأرياف، وتحديداً في غوطة دمشق التي تم تدميرها، بما فيها ومن فيها، من قبل الفرنسيين. وعلى الفور، ارتفعت تكلفة الإنتاج بشكل كبير وأغلقت الكثير من أسواق دمشق أبوابها، قبل قصفها من قبل الطيران الحربي الفرنسي يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1925. دمّر سوق الحميدية الشهير، وهو شريان الحياة الاقتصادية بدمشق، وقد لحق الدمار بسوق البزورية وبأسواق الميدان، مما أدى إلى انهيار العملة السورية. وقد ارتفع سعر الصرف يومها ليصبح 202 قرش للدولار الأمريكي الواحد، مما أدى إلى إفلاس عدد كبير من السوريين. استوفى هذا الانهيار تدخلاً سريعاً من قبل سلطة الانتداب، التي قامت بتثبيت سعر الصرف على 127 قرش للدولار الأمريكي، وهو السعر الذي بقي صامداً من سنة 1929 وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939.
أما عن السوق السوداء، فقد عادت العملة التركية إلى الصدارة، نظراً لثباتها وقوتها في عهد الرئيس كمال أتاتورك. وبالنسبة لكثير من أعيان السوريين يومها، ظلّت هي العملة المفضلة بالنسبة لهم، لأنها كانت قد رافقت مرحلة طويلة من حياتهم والكثير منهم لم يكونوا قد عرفوا عملة غيرها. علينا ألا ننسى أن الكثير من حكام سوريا في العشرينيات كانوا إما أتراكاً أو لهم أهواء تركية. نأخذ على سبيل المثال صبحي بركات الخالدي، رئيس الدولة السورية سنة 1925، وهو من أعيان مدينة أنطاكيا، الذي فضل التقاعد في تركيا وفيها قضى سنواته الأخيرة. لم يكم صبحي بركات يجيد اللغة العربية، وكانت جلسات الحكومة والبرلمان تعقد بالتركي نظراً لضعفه بأي لغة أخرى. وكذلك الحال مع الداماد أحمد نامي، الذي تولّى رئاسة الدولة خلفاً لصبحي بركات سنة 1926، كان مواطناً تركياً لا يحمل الجنسية السورية (وهو صهر السلطان عبد الحميد الثاني). كان يجد صعوبة بالغة في التحدث باللغة العربية ويفضل اللغة التركية عنها، كما ظلّ يتعامل بالليرة التركية في أموره الشخصية خلال فترة رئاسته في دمشق. وبعد خروجه عن الحكم، لم يقبل الإقامة في سوريا، حيث لم يكن له لا مسكن ولا أقرباء، فعاد إلى إسطنبول ثم قضى سنواته الأخيرة في باريس.
وفي عهد الاستقلال بعد جلاء القوات الفرنسية في 17 نيسان/ أبريل 1946، قرر السوريون التوجه رسمياً ونهائياً نحو عملة وطنية جامعة، وصار التعامل بأي عملة أجنبية يعتبر مخالفة (وليس جرماً) يعاقب عليه القانون. أجبرت جميع الشركات الوطنية يومها على تعديل رأس مالها من التركي إلى السوري، وبدأ العمل على تأسيس مصرف سوريا المركزي، الذي فتح أبوابه سنة 1956 في عهد الرئيس الراحل شكري القوتلي، وكان بديلاً عن مصرف سورية ولبنان الحكومي، المكلف بصك النقود منذ بدء الانتداب سنة 1920. وقد جاء قرار إلغاء امتياز المصرف المذكور في عهد الرئيس أديب الشيشكلي (1951-1954)، الذي أمر بإنشاء مصرف وطني ولكنه خلع عن الحكم قبل أن يرى المصرف المركزي النور. كان أديب الشيشكلي متطرفاً في وطنيته، فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من تمكنه من اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولكنه رفض استخدامها في مباحثاته مع الأجانب، وكان لا يظهر في أي جلسة مفاوضات إلا وبجانبه مترجم.
صارت العملة الوطنية تطبع في أوروبا سنة 1956، وقد زيّنت برسوم من تاريخ سوريا القديم، ومعها شعار الجمهورية الذي صممه الفنان خالد العسلي، مدير البروتوكول في القصر الجمهورية يومها وابن شكري العسلي، أحد شهداء 6 أيار/ مايو 1916. وقد حدد راتب الرئيس شكري القوتلي بثلاثة آلاف ليرة سورية، عندما كان سعر الصرف ليرتين وعشرين قرشاً مقابل الدولار الأمريكي. بعد قيام جمهورية الوحدة مع مصر سنة 1958، حاول الرئيس جمال عبد الناصر دمج العملتين، السورية والمصرية، كما فعل بالقوانين والتشريعات، ولكنه واجه معارضة شديدة من الدكتور عزت طرابلسي، حاكم مصرف سوريا المركزي، الذي رفض بشدة. وقد قال الأخير إن الليرة السورية أقوى من المصرية، ويجب عدم التفريط بقيمتها لأجل الوحدة، معتبراً أن العملة السورية هي رمز هوية السوريين وقوتهم.