د. ممدوح حمادة – الناس نيوز :
منذ البداية قلنا لسيادة الملازم، هذه القمة لا تصلح لتكون مرصداً، إن شعروا بوجودنا هنا فستكون نهايتنا، لا يوجد أي طريق يؤمن انسحابنا، فالقمة عارية تماماً سوى من هذه الكتلة الصخرية، ولكن سيادة الملازم أصر على صحة موقفه وأكد أن هذه الصخور في حال تم اكتشافنا من قبل العدو تؤمن لنا الحماية اللازمة، فالأخاديد والشقوق الموجودة في هذه الكتلة الصخرية توفر لنا حرية الحركة، وفي حال انكشاف الموقع يمكننا أن نخوض معركة صغيرة ريثما تؤمن لنا المدفعية تغطية نارية تمكننا من الانسحاب، وأخذ يهذي بكلام فارغ من الذي درسه في الكلية الحربية والذي لم يكن يقنع أحداً، ولكن الوقت لم يتسن لأي منا أن يناقشه فيما يقول، فقد اكتشف العدو موقعنا قبل أن يكمل سيادة الملازم حججه الواهية عن حصانة الموقع.
انهمر الرصاص علينا من الجهات الأربع، فعدا عن كون القمة كانت عارية إلا من هذه الصخور، تبين أنها تقع خلف خطوط العدو أيضاً، وأصبح واضحاً لنا أن سيادة الملازم الذي حدد الموقع نهاراً وقادنا إليه ليلاً تحت جنح الظلام لا يفقه حتى في الخرائط، وهو يتحمل المسؤولية كاملة عن هذا الخطأ الفادح، ولكن هذا ليس وقت الحساب، فكل يبحث عن شق يدس نفسه فيه اتقاء للرصاص والشظايا.
كانوا يمطروننا بالرشاشات الثقيلة ومدافع الهاون وسرعان ما ظهرت فوقنا حوامة أخذت تحلق دائريا فوق الموقع وتصلينا برشقات رشاشها كما لو أن طاقهما كان يتسلى باصطيادنا، لم يكن أحد منا يعرف ما الذي يحدث حوله مع الآخرين، ولم يطلب أحد النجدة من أحد، كانت أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص تسيطر على كل شيء، وكان هناك صوت لم نسمعه في المعارك السابقة، انه صوت تكسر الصخور، كانت القمة التي حشرنا فيها سيادة الملازم وبفعل قذائف الهاون وطلقات الرشاشات، كأنما تتعرض للتكسير بآلاف من المطارق الفولاذية الضخمة، وكانت الشقوق التي حشرنا بها أنفسنا بين الصخور كأنما تنطبق على صدورنا كلما انفجرت قذيفة هاوون، بعد عدة دقائق لم أعد أعرف ما يجري، كنت أرى سراباً فقط، وأسمع دوياً متواصلاً كما لو أن الريح تنفخ في بوق ضخم بنغمة قرار متواصلة، وقد وضعت فوهته على أذني.
ثم وبعد أن روت الرشاشات ومدافع الهاون ظمأها للنار، توقف الرمي وابتعدت الحوامة وحل صمت ثقيل كما لو أن العالم كله أصبح حجرة خاوية، صمت لم يقطعه سوى صوت الرقيب أديب الذي نهض من تحت التراب ينظر بقلق إلى بطة رجله اليسرى التي كشف عنها ساق السروال فاكتشف أنه أصيب بخدش سببته شظية ما، نتحت منه بعض قطرات صغيرة من الدم، ولكنها كانت كافية لكي تدب الرعب في نفس أديب الذي سرعان ما استلقى على ظهره وأمسك برجله التي رفعها في الهواء وأخذ يصيح بلهجته القروية:
– آني قتلت سيدي الملازم.. آني قتلت سيدي الملازم..
منظر الرقيب أديب وهو يمسك برجله و يصرخ بدون انقطاع منتحباً أحياناً بأنه قُتل، وتمسكه بأصول المخاطبة العسكرية حتى في لحظة احتضاره، كما كان يظن، كان منظراً يصلح لمشهد في فيلم كوميدي، أكثر منه لحرب.
ذكرني منظره بثعلب في إحدى قصص الأطفال التي درسناها في كتاب القراءة في صف من صفوف الابتدائية، لا أظن أن مشهداً يبعث على الضحك أكثر من مشهد الرقيب أديب الآن، ولكن أحداً لم يضحك بطبيعة الحال، فقد كنا جميعاً جثثاً هامدة مزقتها شظايا قنابل الهاون وتخارقها الرصاص، حتى الرقيب أديب لم يطل به الأمر، فقد لاحظوا في المرصد المقابل حركة ما لا تزال تشير إلى وجود حياة في موقعنا، فسمع صوت رشقة قصيرة لرشاش، انضم بعدها الرقيب أديب إلى صمتنا الأبدي.