- يوسف إسماعيل الشغري – الناس نيوز :
ما يحسب للروائية “شادية أتاسي” أنها امرأة سورية عادية، أبدعت رواية في زمن الحرب أو ما أطلقت عليه “المقتلة السورية”. وهي لا تمثل نفسها وتحكي قصتها في روايتها الأولى “تانغو الغرام” الصادرة عن “الدار العربية للعلوم ناشرون” عام 2020 فحسب، بل تحكي قصتها عن جميع السوريين المتورطين في الحرب رغماً عنهم.
“اتفق العالم على تصنيفنا ( السوريين ) في خانة المنبوذين والمشكوك بهم. “
تعبر عن هذه الحالة بحرقة : “لم ترأف بنا الحرب يا حبيبي… اتفق العالم على أن نبقى بين بين، عالقين ، لسنا هناك ولا هنا.. نكتب قصائد الحب، بلغة الحب، لغتنا الأم”.
تؤرخ رواية “تانغو الغرام” للكارثة السورية التي أصابت الشعب السوري، رواية تهجو الحرب وتندد بتخريبها البلاد والناس وانهيار القيم، تواجهه شخصيات الرواية، وبطلة القصة التي تسرد يوميات الفظائع التي واجهها الإنسان السوري العادي، ودفع ثمنها الباهظ ولا يزال، من أمنه وحياته وأحلامه…وتدافع عن حقه البسيط في أن يكون آمنا، وأن يحب ويحلم، لكن الحرب كانت له بالمرصاد، تقول:
” التغيير كان صادماً، أنتَ في الحرب غيركَ في زمن آخر”.
يمكن القول إن الروائية التي كتبت “تانغو الغرام” هي كما قال لها الروائي عمر السمان في الرواية: ” أنت تكتبين بروحك، أعشق هذه الروح”. رواية كتبت بشغاف الروح، فهي تورطنا معها بالولوج إلى عمق المعمعة السورية.. تسردها كامرأة عادية تحب وتُحب، يحيط بها الخوف وانعدام الأمن. تروي كيف تعبث الحرب بإحساسها وعواطفها، وكيف تنهار علاقتها بزوجها أب ابنتها الذي يغادر وحيدا، يتركها وابنتها لدمشق التي تعشقها. لم يستطع زوجه أن يلامس شغاف قلبها ” ثمة منطقة عميقة في قلب المرأة ، عميقة الغور، ربما تكون روحها براءتها، سرّها عندما يستطيع الرجل أن يلمسها ستكون له المرأة إلى الأبد.”
يتركها زوجها خالد وحيدة مع ابنته، فقد انكسر بينهما ما كان يربطهما: ” أحياناً يكون للكلمة في موقف معين فعل مدمر لا ينفع بعده أي علاج”. فتصف كيف كانت الأوضاع لامرأة وحيدة وابنتها، في أتون فظائع المقتلة السورية: “في السنوات الأولى لرحيل خالد، كنت أسمع نشيج ابنتي في الليل فأهرع إلى غرفتها، آخذها في حضني ونبكي معا كطفلتين، نرتجف ونحن نستمع إلى صوت القذائف ورشقات الرصاص وعواء الكلاب في الخارج. نلتصق إحدانا بالأخرى حتى يأتي الصباح.”
كما يشكل موت أمها وسط ضجيج القذائف الصاروخية، مشهداً إنسانيا عميق الدلالة في الرواية. حين تغادر بيتها في دمشق متوجهة إلى حمص، حيث يعلو صراخ الموت والدمار ويحتدم انعدام الأمن، فتصور بمقدرة فائقة الأوضاع الرهيبة التي تعيشها المدينة، حيث القصف صم الآذان والموت الأعمى يترصد الناس في زوايا مدينة عاشت فيها طفولتها وشبابها الأول.. وتكون صرختها التي لم يسمعها أو يكترث بها أحد، هي الرد الوحيد من امرأة فجعت بموت أمها في أحد المستشفيات التي تئن تحت وطأة القصف، صرختها المدوية: ” أمي تموت أيها الحمقى”.
على نحو موازٍ لموت أمها المفجع، تكتب عن موت والد صديقتها سحر بالربو، ما يؤكد توازي الموت كتنديد بهذه الحرب القذرة، كما تقدم قصة منى ومحمود كمعادل آخر لفظائع الحرب. وتستعيض بالخيال بدلاً من الواقع . تقول لها ماتيلدا : ” كلنا نخترع الحلم لنهرب من عبء الحياة” بينما يقول لها الطبيب النفسي ” هو حلم خلقته أنتِ بقوة ، ليحرض فيكِ غريزة الانتماء للحياة”.
وهكذا تعشق الروائي عمر السمان، كاتبها المفضل، وكأنه حقيقة:” أعشق روائياً يقيم في روايته، في عالم لا يتساوى مع عالمي، لن يقدر لهما أن يقتربا من بعضهما أبداً ” حبيبها الذي عاشت في رواياته تستحضره عن طريق وسائل التواصل (السكايب)، تتكلم معه وتأمل أن يكون واقعا وليس حلما، بعدما تضغط عليها ابنتها لتهاجر إلى ألمانيا حيث استقر خالد والد ابنتها.
يمنع البعد لقاءهما هي وحبيبها الافتراضي الروائي عمر السمان، فهي تعيش في ألمانيا، وعمر يعيش في تركيا. وتتحدث عن حياة الروائي الذي تحبه فهو في الخمسينات من عمره ولديه ولد وابنة وعلاقته بابنه كانت على غير ما يرام، لكن علاقته بابنته المتزوجة من كريم، كانت جيدة. كريم ينتهي به الأمر إلى التطرف، ينضم إلى التنظيمات المتطرفة، وينقل إلى زوجته لمى، التي تحبه وتؤمن به، طريقته في التفكير، وينتهي الأمر أن كريماً يُختطف ولا تُعرف نهايته .
يقرر عمر السمان العودة إلى سوريا، بعد أن سئم الترحال والغربة والعيش في بلاد الآخرين، رغم خوفه من الاعتقال، ويدعو بطلة الرواية حبيبته الافتراضية إلى العودة معه إلى الوطن، ليعيشا ما تبقى لهما من العمر، لكنها تتردد لأنها لا تستطيع أن تترك ابنتها، ثم إن قوانين اللجوء الدولية، تمنع لقاء الحبيبين، فإذا خرجا من البلد، يفقدان حقهما في العودة، ما يحرمها من ابنتها الوحيدة، تختم روايتها: ” لم أنجُ بعد، وكأن الأمر أشبه ما يكون بالرقص على إيقاع رقصة التانغو: اجتياز كل خطوات اللف والدوران، والانثناء والانحناء والالتصاق ثم الاستسلام الكامل إلى نشوة ذاك الدوران اللذيذ وانتظار إيماءة الطرف الآخر. “
قديما قالت العرب ” ما خرج من القلب وقع في القلب” ولأن شادية أتاسي تكتب بإحساس صادق تجذبنا إلى عوالم روايتها، تسحبنا بمهارة السهل الممتنع، بلغة سهلة وسلسة، فكيف إذا كانت تهجو الحرب وتندد بها وتنتصر للإنسان في مواجهة الموت.
يوسف إسماعيل شغري
شاعر وناقد من سورية .