الهجرة قديمة قدم الانسان بحثاً عما يقتات به، ثم استقر في تجمعات، لكن الهجرة لم تتوقف، عانت الجماعات من جور الطبيعة، عندما كانت تضن عليهم بخيراتها، وتمنحهم العواصف والأعاصير والجفاف. عموماً كانت الهجرة لأسباب اقتصادية هي الغالبة، وفي بعض الحالات تفوقت عليها الاضطهادات الدينية، والبحث عن الأمان.
من الأسباب الاقتصادية، الهجرة احتجاجاً على عدم المساواة، وذلك بالتمييز بين أبناء الوطن، فلا يمنح للفقراء الفرص لتحسين وضعهم المعاشي، وربما تأمين طعام للعائلة، أو صعود السلم الاجتماعي، وهو الغالب في الهجرات العربية إلى الأمريكيتين بحثاً عن ظروف عمل أفضل.
في عصرنا الحاضر، كان أكثرها بسبب الحروب، قد تكون نزوحاً في الوطن من المناطق النائية والحدودية نحو المدن، وهي هجرة داخلية لا تقل عن الخارجية. لكن ما أصبح منتشراً خلال القرن الماضي، واستمر في القرن الحالي هو الحروب في الدولة الواحدة، ما يؤدي إلى حروب أهلية، واستخدام القوة إلى حد الإبادة.
تتمظهر في أنظمة بوليسية استولت على مقدرات الدولة الاقتصادية، وجعلت من الجيش أداتها في اخضاع الشعب، ما خولها التحكم به، وتهديد المواطنين بالسجون والإعدامات، بموجب اتهامات سياسية، بزعم تطهير البلد من الأعداء. وهكذا خدمت الأيديولوجيا الدكتاتوريات، وأباحت لها القتل والفساد تحت غطاء من الاشتراكية والمقاومة والتحرير.
في التاريخ، رغم الجرائم التي ارتكبها الطغاة ضد شعوبهم، لم يصادف أن نظاماً شن حرباً مدمرة ضد مواطنيه، استمرت عشر سنوات حتى الآن، مع أن ما بدأ، وكان مظاهرات سلمية، لا يستأهل حرباً شعواء، لمجرد مطالبة الشعب عدم الاعتداء عليه من الأجهزة الأمنية. لم يعدم النظام تهمة لم يوجهها للمحتجين، وتوسيع دائرة الاتهام، وتفاقمت إلى مؤامرة كونية، وتذرع بالقضاء على الإرهاب. ثم سوغ التهجير من أجل سورية مفيدة، وإقامة مجتمع منسجم بلا احتجاجات، ولا معارضة، ولا حقوق… مجتمع خانع.
فأجبر سكان المدن والقرى على النزوح من بيوتهم وأراضيهم، ولم تكتسب الباصات الخضر سمعتها السيئة إلا من التهجير القسري من دون أمل بالعودة، وبهذا استنّ النظام السوري سابقة، في حال أن الحاكم لم يعجبه الشعب يأمره بالرحيل فيرحل.
برمج هذا النظام على التهام الأخضر واليابس، تحت إمرته جيش عقائدي يخلو من أي عقيدة، جرى تحويله إلى جيش أعمى، يماثل أحيانا “الشبيحة” في نهب البيوت وجناية عمر أصحابها، لا يقلون عن مغول هذا العصر، تتقدمهم وتشد من أزرهم ميليشيات مذهبية تقتل كفريضة دينية مأجورة.
ليست الحروب التي تخوضها الدول ضد شعوبها، إلا ذريعة لاستمرار الفساد، فلا نتساءل عن ازدهاره. إنه أصل الحروب والتسلط، الفساد نابذ للعدالة وطارد للحريات. تحيلنا قصة النهب إلى السرقة الموصوفة، وأن الحكام لصوص. عندما يحين الحين، يهرب كل منهم، ومعه حقائب المال والمجوهرات، عدا الأموال المودعة في بنوك الغرب.
يستقبل الغرب أموال الطغاة، فالبنوك لا تهتم بمصادر المال، زبائنها عبارة عن أرقام مثلما المال أرقام، وإن كان بالمليارات، وليس عرق الشعوب وشقائهم. كما يستقبل اللاجئين كأرقام، لكن بحساب، حفاظاً على سمعة الديمقراطية، ولأسباب إنسانية، ترتب أعباء على عاتقها، وتمنحهم ما لا يتوفر في بلدهم الأم، الحرية. لكن الشعوب الديمقراطية لا تخلو من العنصريين فلا يكون استقبالهم على الرحب والسعة دائماً، سرعان ما يحصل التناحر والتنافر، فالثقافات مختلفة وربما متناقضة، وقد تستدعي عداوات من التاريخ، فوساوس الشعوب متشابهة، ومع أنها طيبة، لها حماقاتها وجرائمها.
هناك حادثة يتذكرها السوريون، في حرب تموز بين إسرائيل وحزب الله، لجأت عائلات شيعية إلى سورية، ففتح لهم الناس بيوتهم. كما جرى تكليف بعض الجمعيات الخيرية بالعناية بهم، وتأمين أفضل إقامة لهم، بعض هذه العائلات استنكرت ما قدم لها، ولم يعجبها نوع الشراشف والأسرة والطعام، فالإقامة يجب ان تكون خمس نجوم، بناء على اعتقاد أن حزبهم يقاتل نيابة عن العرب جميعاً، وتخصيصا عن سورية، كما أخذ تحرير القدس على عاتقه. أحس المسؤولون في الجمعيات الخيرية بالحرج، فالنظام السوري لم يقاتل ولم يقاوم، مع أنه الأولى بتحرير أراضيه المحتلة، بل تركها محتلة. فبالغوا في إكرامهم من شدة ما خجلوا منهم.
بعد سنوات ظهر أن الحزب يقاتل بالنيابة عن إيران، التي جعلت بلادنا ذريعة لطموحاتها الإمبراطورية، أما القدس فلم تكن الهدف، بل نحن المستهدفون، لم يحتلوا بيوتنا فقط، بل جاؤوا ليقتلونا أيضاً، وما حدث عندما حصل اللجوء المعاكس للسوريين إلى لبنان، أظهر من وقف الى جانب الحزب الإلهي عنصرية بغيضة ضد لاجئينا.
يتم استقبال اللاجئين لأسباب إنسانية، لا سياسية، فالعواطف الإنسانية لا تُسيّس. ولولا أن الأسباب الإنسانية أصبحت قوانينا، لما كان هناك بلدان لجوء، والأنظمة الشمولية ذبحت معارضيها عن بكرة أبيهم.
فواز حداد