بغداد – الناس نيوز ::
لم يتبق من كنيس “مئير طويق” لليهود المنسي في وسط بغداد، إلا عبارات مخطوطة باللغة العبرية على مدخله وجدرانه وبعض المخطوطات والكتب دينية، التي تذكّر بحقبةٍ كان فيها اليهود من أبرز الأقليات في العراق.
وفي العراق الذي أنهكته الصراعات لعقود، انحسر عدد أفراد الديانة اليهودية الذين كانوا يشكلون واحدة من أكبر الأقليات في الشرق الأوسط، تاركا وراءه تراثا قيّما في مهب الإهمال.
ويراقب آخر من بقي من اليهود، ولا يتعدّى عددهم عدد اصابع اليد الواحدة، بحسرة اختفاء تراثهم تدريجيا، عاجزين عن إنقاذه، في بلد تنتشر فيه فصائل مسلحة ذات نفوذ واسع وشهد هجمات متكررة لجهاديين دفعت بأقليات أخرى أيضا للهجرة من البلاد.
ورغم بعض مشاريع الترميم، لا تكفي الجهود المحدودة لمنظمات دولية لإنقاذ هذا التراث القيّم.
في معبد “مئير طويق” الذي شيد عام 1942، توقف الزمن. تساقطت أجزاء من واجهات الجدران الزرقاء في قاعته الرئيسية. المقاعد الخشبية مغطاة بقماش أبيض لحمايتها من حرارة الشمس والغبار.
في أعلى الواجهة الرئيسية للقاعة، لوح خشبي للوصايا العشر يعلوها اسم الله. ومن حولها، ألواح رخامية نقشت عليها شمعدانات بسبعة فروع ومزامير بالعبرية، تتوسطها خزانة فخمة تحتوي مخطوطات توراتية قديمة من جلد الغزال.
وروى أحد أفراد الطائفة من داخل المعبد لفرانس برس “كنا نقيم هنا صلاتنا ونحتفل بأعيادنا ونحضر دروساً دينية وقراءات باللغة العبرية أيام العطلة المدرسية الصيفية”.
وأضاف رافضا كشف اسمه “تراثنا اليوم بحالة يرثى له، حتى الدولة لا تعترف بنا”. وتحدّث عن استيلاء أحدهم على معبد في جنوب العراق، وتحويله إلى مخزن للبضائع.
وتابع “تراث اليهود في العراق مهدّد بالاندثار والسرقة والضياع، أين الأمم المتحدة لتساعدنا لإنقاذه؟”.
– مواقع اندثرت –
وتعود جذور وجود اليهود إلى ما قبل 2600 عام في العراق الذي ولد فيه النبي ابراهيم، وحيث كتب اليهود التلمود البابلي.
خلال الحكم العثماني، كان اليهود يشكلون 40 في المئة من سكان بغداد. وكان عدد اليهود 150 ألف نسمة في العام 1948 عند قيام إسرائيل. وخلال السنوات الثلاث التالية، غادر 96% منهم العراق.
ونتيجة لهجرة طوعية أحياناً أو ناجمة عن ضغوط وتقلبات سياسية أحياناً أخرى، توجه أغلبهم إلى اسرائيل التي يقطنها حالياً 219 الف يهودي من أصل عراقي.
وكان يوجد في العراق في وقت من الأوقات 118 معبداً يهودياً و48 مدرسة تلمودية وتسعة ضرائح لأنبياء ورجل دين وثلاثة مقابر يهودية، وفق تقرير لمنظمتين صدر عام 2020.
ويوثّق التقرير التراث اليهودي في العراق وسوريا الذي يشمل مواقع قديمة اندثرت وتعود للألفية الأولى قبل الميلاد.
وبحسب تقرير لمؤسسة التراث اليهودي ومقرها لندن والجمعية الأميركية لأبحاث ما وراء البحار ASOR، “لم يبق سوى 30 موقعاً من أصل 297 تمّ توثيقها في العراق”. ويضيف التقرير أن “من بين المواقع الثلاثين، 21 بحالة سيئة أو سيئة للغاية”.
وذكر دارين آشبي، أحد معدّي هذا التقرير، بأن افراد الطائفة القلائل “الذين بقوا (في العراق) عملوا بجد على حماية تراثهم والمحافظة عليه، لكن حجم المهمة أكبر من قدراتهم”.
ويختصر الخبير المختص بالمحافظة على التراث العراقي في جامعة بنسلفانيا الأميركية ما حلّ بالتراث اليهودي بالقول “بمرور الأيام، ضاع جزء كبير من هذا التراث جراء البيع والمصادرة والتدهور البطيء والانهيار”.
ويتجلّى ذلك في مدينة الموصل في شمال العراق التي استعادتها القوات العراقية في نهاية العام 2017 من قبضة الجهاديين.
هناك، تجثم أنقاض معبد ساسون الذي بقيت منه قنطرة انهارت أقواسها وأعمدة من حجر تغلغل العشب في تفسخاتها وتراكمت حولها القمامة والأنقاض. وبحسب مصعب محمد جاسم، أحد مسؤولي الآثار في محافظة نينوى، يعود الموقع للقرن السابع عشر الميلادي.
ولفت المسؤول إلى أن مبنى “المعبد حاليا باسم عائلة موصلية، لديهم سند رسمي بأنه يعود لهم”. و”كانوا يسكنونه منذ فترة طويلة”. وأضاف أنهم “راجعوا السلطات ليطلبوا منها استملاك (المبنى) أو ترميمه”.
وأبدى التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (ألِف) استعداده لدعم مشروع الترميم في الوقت المناسب.
– “أطلال” –
وترك اليهود بصمات مهمة في تاريخ العراق. وتولى بعض أبناء الطائفة مناصب مهمة بينها أول وزير مالية للبلاد ساسون حسقيل.
ويروي المؤرخ أحمد عبد الصاحب من مدينة الحلة (وسط) لفرانس برس، أن “اليهود في ثلاثينات القرن الماضي كانوا يسكنون في أحياء الجباويين والتعيس (وسط الحلة)، وكان هناك معبدان ومدرسة وناد رياضي خاص” بهم. وأضاف “لم يعد هناك غير الأطلال”.
ورغم كل ذلك، هناك خطوات خجولة باتجاه حماية هذا التراث.
ففي كانون الثاني/يناير الماضي، أعلنت القنصلية الأميركية في أربيل عن تمويل بقيمة 500 ألف دولار لترميم معبد “حزقيال” في ريف بلدة عقرة في شمال العراق.
في الشمال، تمّ ترميم ضريح النبي ناحوم بدعم مالي أميركي وأموال من حكومة إقليم كردستان وتبرعات خاصة. وعاد هذا الضريح كما لو كان جديداً، علماً أنه بني بالحجر التقليدي بشكله الحالي في القرن الثامن عشر، لكنه يعود إلى القرن العاشر.
ويستذكر الشماس جوزف إلياس يلدا قصصا رواها شيوخ من القرية عن توافد حجاج يهود على مدى أسبوع خلال شهر حزيران/يونيو لإحياء ذكرى النبي ناحوم.
ويقول يلدا (67 عاما) “كانوا يأتون من جميع المحافظات، وحتى من الدول المجاورة (…). بعد الاحتفال الديني، كان هناك حفل في البلدة القديمة، وكان الناس يشربون ويرقصون الدبكة”.