هل حان الوقت لنكفر بالحروب كلها؟
عشر سنوات سوفياتية.. وعشرون سنة أمريكية.. وتريليون دولار.. والنتيجة تيتي تيتي
في أشد تصريحات بايدن غرابة واستفزازاً: “إن أمريكا أنفقت تريليون دولار في أفغانستان”!! (أعتقد أن الرقم غير صحيح ومبالغ فيه وسيتعرض لنقد من الهيئات المالية في الحكومة الأمريكية).
ولكن إعلان رقم كهذا يشكل إدانة جديدة لحماقات أمريكا في أفغانستان، فما هو ناتج هذه الأرقام؟ تريليون دولار، رقم يعادل موازنة أفغانستان كاملة لمدة 182 سنة! حيث تبلغ موازنة أفغانستان لعام 2020 مبلغ 428 مليار أفغان أفغاني، ويعادل أيضاً ميزانية ماليزيا خلال عشرين عاماً!
فرصة 182 عاماً من التنمية في البلد المنكوب قدمت خلال عشرين سنة، وبدراسة سريعة في الأرقام فإن هذا المبلغ يمكن أن يوفر 220 جامعة حديثة 220 مصنعاً استراتيجياً وخمساً وسبعين محطة طاقة، وبنية تحتية كاملة وشبكة خطوط طرقية وسكة حديد لكل أفغانستان بتنفيذ ياباني كامل!!
أو في حسبة أكثر بساطة فإن العائلات الأفغانية التي يبلغ عددها أربعة ملايين عائلة في البلاد والمهجر، سينال كل منها مبلغ 250 ألف دولار أمريكي، وهو رقم يكفي للعيش الكريم بمستوى أعلى من كل الدول النامية، وسيمنع كل مخاطر الهجرة والإرهاب.
بل إن نصف هذا المبلغ كان كافياً لتغيير كل شيء في أفغانستان، ويتبقى النصف الآخر للإنفاق على الأمن ومحاربة الإرهاب.
بالطبع فإن قراءة الحرب من الجانب المادي يعتبر موقفاً لا إنسانياً، فالكارثة الأكبر في الحرب ليست ضياع تريليون دولار بل ضياع الأرواح البريئة، واستباحة الإنسان وتحطيم ذاته ووجوده.
الحرب سراب وجنون… الحرب ماتت في الأمم المتحضرة.. ولا زالت تشقى بها الشعوب البائسة… ولا تزال هذه الشعوب تتوسل من صقور الحرب في الأمم الغالبة رصاصها ونارها وجنونها.
هكذا كان المشهد الأسبوع الماضي، على وقع انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان وتسليم البلاد للمصير المجهول.
وبعيداً عن التحليل السياسي الذي لا ينضب هذه الأيام، ولكن الجانب الأكثر وضوحاً في مشهد الخروج المذل والفراغ المخل هو أن العقل العسكري لا يحمل في المضمون حلولاً حقيقية للكوارث الاجتماعية.
الحرب رسمت في الماضي حركة التاريخ، وكانت أقل نتائج الحروب هي رسم خرائط العالم من جديد، ومنذ عهد قريب أعاد نابليون وهتلر رسم خريطة العالم عدة مرات قبل أن ينتهي الأول في سانت هيلانة، والآخر في حجرة الانتحار.
ولكن العالم اليوم بات في مكان آخر، وباتت قوانين الأمم المتحدة ترسم خريطة مستقرة للعالم منذ 75 سنة.
فالحرب الضارية التي شنها السوفييت عشر سنوات لم تغير من واقع أفغانستان شيئاً، ولم يشهد بريجينيف بؤس نبوءته بعد أن أخفق الجيش السوفياتي العملاق في تغيير المشهد، وفي النهاية خرج الروس مذعورين وحملت طالبان نجيب الله إلى أقرب عمود كهرباء، فعلقته عليه وأعلنت نهاية العصر السوفيتي، فيما كانت البيروسترويكا والغلاسنوست قد جاءت بأجل الاتحاد السوفياتي نفسه قبل ذلك بسنوات.
لم يكن الدرس كافياً لاقناع النابليونات والهتلريات الجديدة ببؤس الحرب وعقمها، وحين شن بوش الصغير حربه على أفغانستان حصل على دعم معنوي سريع، وأعلن انتصاره في أسابيع قليلة، وباتت أفغانستان كلها تحت العلم الأمريكي، وبدا الرجل يصمم مستقبل أفغانستان كما يليق بمحمية مدللة للدولة الأقوى في العالم.
ولكن الأيام قد جاءت على عكس ما تمناه الرؤساء المتعاقبون أوباما وترامب وبايدن، وهكذا فالحرب يأخذ بعضها بسبيل بعض، وهكذا وجد الجميع أنهم لا يستطيعون الخروج من مسرحية الحرب إلا بنهاية تراجيدية، وأصر بايدن، وهو يراقب التريليون التي صرفت على أفغانستان أننا نطبخ البحص حين نستمر في هذه الحرب العابثة، وقرر الرحيل.
هل قدمت الحرب شيئاً؟ العادة أن الحروب تحقق تغييراً على الأرض وعلى الحدود وعلى الأشخاص، ولكن المشهد الأمريكي الكارثي في أفغانستان لم يتمكن من تغيير شيء، وعادت طالبان بقيمها وتراثها وملابسها وعماماتها وشالاتها إياها إلى المهد نفسه، دون الحاجة لأي تغيير بروتوكولي تقدمه بالمجان لصالح المحتل الأمريكي.
كان عليهم أن يدركوا طبيعة هذه الشعوب الشرقية المختلفة، وأن يؤمنوا بها كما هي دون أن يكلفوا عناءهم تغيير الطبيعة، فليست مهمتك أن تقنع البقرة أن الموز أطيب من العشب، بل مهمتك أن تقنع نفسك أن لا دخل لك فيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويركعون ويسجدون وينكحون.. وتنتهي مسؤوليتك حين تقدم لهم الخدمات المناسبة وتحثهم على التفكير.
حين ندفع الجيل إلى الابتكار والوعي فإننا نحررهم، وحين نمارس عليهم التلقين فنحن نضمهم إلى القطيع.
التغيير المجتمعي ليس شيئاً تصنعه القوى الأمنية وحدها ولا الجيش الاحترافي.. ولا ظاهر القوة والسلطان، التغيير في العمق هو توفير فرص التعليم والعمل والإبداع، ودفع الناس للعمل والأمل، والأهم من ذلك الحرية في اختيار ما يعتقدون.
لقد مضى الدرس بقسوته، وكان من الممكن أن يتغير كل شيء لو كانت الصورة على الشكل التالي: لدينا شعب فوضوي يسبب لنا مشاكل كثيرة، لديه اندفاعات في غير مصالحنا وهو يخطط لضرب أهدافنا الحيوية، لقد خصصنا موازنة تبلغ تريليون دولار ننفقها على مدى عشرين عاماً، وبدون أدنى مبالغة فقد كان المبلغ الأسطوري كافياً أن يحول أفغانستان إلى دولة مثل ماليزيا على أقل تقدير.
تتغير الأحكام بتغير الأزمان، إنها قاعدة حيوية في كل الأديان والثقافات والقوانين، فهل يدركها أمراء الحرب اليوم، وهل يدركون أن قانون الحرب لم يعد اليوم كما كان قبل مئة عام، وأن صناعة السلام هي ما يأتي بالتغيير وليس صناعة الحرب، وأن مواجهة الإرهاب يقتضي مواجهة جذوره ومنابعه في الثقافة والتربية أكثر من المعارك الماحقة والحرب المفتوحة.
محمد حبش