د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
الوضع العشائري والطائفي في العراق كان ولا يزال معقداً للغاية، يصعب على معظم المحللين الأجانب توصيفه بشكل دقيق، أو شرحه للقارئ الغربي الذي لا يعرف العراق ولم يزره في حياته.
وبذلك اعتمد هؤلاء المحللون طيلة السنوات التسعة عشر الماضية (أي منذ سقوط حكم صدام حسين عام 2003)، على تبسيط الأمور وفرز الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد، ما بين “محسوب على إيران” أو “مستقل عن إيران”.
ضمن هذا التصنيف البسيط، عُرف “الأطيار التنسيقي” بالإيراني، ووصف زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر بأنه “مستقل”.
ولكن هؤلاء المحللين وقعوا في فخ كبير، نصبه لهم من قبل مقتدى الصدر ذات نفسه، الذي أراد أن يظهر نفسه مستقلاً، بالتنسيق الكامل مع راعيه الإيراني، والذي كان قد احتضنه منذ لحظة سقوط صدام حسين.
وجدوا في الصدر شخصية استثنائية قادرة على تحقيق الكثير من المكاسب بالنسبة لهم، فهو شيعي متدين منسوب لآل البيت أولاً، منحدر من أسرة أئمة وشهداء، وله أتباع كُثر بين فقراء العاصمة العراقية.
إضافة لكل ذلك كان معجباً بحسن نصر الله، زعيم حزب الله في لبنان، الذي طالما اعتبره الصدر مثلهُ الأعلى في السياسة بعد أبيه وعمّه.
سوقوا له بداية كثائر ضد الاحتلال الأمريكي، ثم كسياسي طامح إلى تحسين أوضاع شعبه، ولكنهم أصروا أن يظهر دوماً بشكل مختلف عن بقية رجالات إيران في العراق، وذلك لإطفاء شرعية عليه وإعطائه هامش أوسع للمناورة، سواء مع الأمريكيين أو مع بقية اللاعبين الداخليين. خلال هذه السنوات (2003-2006)، لم يصدر عن الصدر أية إدانة لإيران، ولا حتى تحفظ على تصرفاتها.
ثم تحول الصدر إلى “صانع ملوك”، وكانت له اليد العليا في وصول زعيم حزب الدعوة إبراهيم الجعفري إلى رئاسة الحكومة سنة 2005، وهو المحسوب عضوياً على النظام الإيراني، وفي تنصيب نوري المالكي خلفاً له عام 2006.
محللو اليوم ينسون، أو ربما يتناسون، أو أنهم لا يعرفون، أن الرجلين كانا على وفاق تام يومها، وقد انعكس ذلك على النظام الطائفي الذي أشرف عليه المالكي، بدعم من مقتدى الصدر.
في عهده أعطي التيّار الصدري مناصب مهمة في الدولة، منها حقائب المعارف والصحة، وسمح لميليشياته المعروفة يومها بـ”قرق الموت” أن تجول شوارع العاصمة العراقية ليلاً دون أي محاسب أو رقيب، وأن تضرب بيد من حديد كل من كان يهدد مسيرتها، سواء كانوا بعثيين قدامى من المسلمين السنّة، أو شيعة من أتباع تيارات مختلفة عن الصدر، مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وميليشيا بدر، وهم جماعة عمّار الحكيم، المنافس الأول للصدر داخل البيت الشيعي (وهو أيضاً من أتباع إيران).
في عهد نوري المالكي وبدعم وتشجيع مباشر منه، تغلغل الصدريون في مفاصل الدولة العراقية كافة، وقاموا باعتقال آلاف الأعداء، أو تصفيتهم جسدياً في السجون، وجميعنا يذكر أن السجانين الذين وضعوا حبل المشنقة حول رقبة صدام حسين كانوا يرتدون أقنعة سوداء، وهو يهتفون: “مقتدى…مقتدى”، لحظة تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس العراقي الأسبق.
أي أنهم لم يكونوا موظفين في وزارة الداخلية أو العدل، بل لدى التيّار الصدري وزعيمه.
وفي سنة 2008، وخلال مفاوضات السلام السورية الإسرائيلية التي جرت يومها بوساطة تركية، تخوفت إيران من قرب إبرام اتفاق بين دمشق وتل أبيب، ما كان يعني، بالنسبة لها، سقوط الحكم الحليف في سوريا.
هذا كان سيعني حتماً نهاية حزب الله في لبنان، فقررت إيران إيجاد ذراع عسكري بديل لها داخل العالم العربي، ورأت أن يكون “جيش المهدي” هو هذا البديل.
سُحب الصدر من المشهد العراقي يومها، وتم نقله سراً إلى مدينة قمّ للخضوع لدورة دروس مكثفة من الحرس الثوري.
حاول الإيرانيون ترقيته داخل المؤسسة الدينية، وجعله “مجتهداً” و”مرجعاً” تمهيداً لوصوله إلى رتبة “أية الله،” لكي يتمكن من الإفتاء (وهو ما لم يحصل طبعاً)، كما أخضعوا جيش المهدي لعملية تطهير واسعة، خرج منها الرعاع والزعران، ولو مؤقتاً، لصالح عناصر متعلمة وجامعية شابة.
ثم كان الفراق بين الصدر والمالكي من جهة سنة 2014، وبين المالكي وإيران، بعد سقوط عدد من المدن والقرى العراقية تحت سيطرة تنظيم داعش.
اتهم المالكي بهذا التقصير الأمني الكبير وتم إخراجه من منصبه، ولكن الصدر حافظ على موقعه “صانعاً للملوك”، وكانت له اليد العليا مجدداً في وصول حيدر عبادي إلى رئاسة الحكومة، ومن بعده عادل عبد المهدي، وصولاً للرئيس الحالي مصطفى الكاظمي الذي عيّن رئيساً للحكومة، بتزكية صدرية في منتصف العام 2022.
خلال هذه الفترة، أطلق الصدر عدة مواقف رنانة، ساهمت في تعزيز الصورة “المستقلة” التي كان يريد رسمها لنفسه، مثل المطالبة بسحب سلاح الميليشيات وتخفيف النفود الإيراني في العراق، وصولاً لدعوته الشهيرة للرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي في أبريل/نيسان 2017.
المحللون الأجانب هللوا لهذه المواقف، واعتبروا أنها خير دليل على “استقلالية” الصدر.
ولكنهم نسوا أن الصدر نفسه كان أول من رفض إلقاء السلاح، وأنه في صيف العام 2021 كان أول من هنأ الأسد على إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية.
وقبلها بعام، ظهر الصدر في طهران في إحدى المناسبات الدينية، جالساً بين المرشد الأكبر علي خامنئي ورئيس فيلق القدس قاسم سليماني.
لو كان معارضاً لإيران لما حظي مقتدى الصدر بهذه المكانة، ولما دُعي أصلاً لحضور أي مناسبة مع المرشد.
نصل إلى ما يحدث في العراق اليوم، من انقسام شديد بين الصدر “المستقل” والإطار التنسيقي “المسحوب على إيران”.
المحللون الأجانب يصرون على أنه صراع بين رجالات إيران من جهة، والصدر الذي شق عصا الطاعة، ويحاول جاهداً الابتعاد عن السيطرة الإيرانية.
وهذا ما كتب وقيل في كبرى الصحف العالمية منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولكنه ضعف في التحليل، لا يمت إلى الحقيقة بصلة.
الخلاف هو داخل البيت الشيعي المحسوب على إيران، لا أكثر، خلاف على مكاسب ومناصب، وليس خلافاً على التبعية لإيران.