ممدوح حمادة – الناس نيوز:
عندما وصلت أمس إلى هذه المدينة الباردة التي يعرف عنها أن ليس فيها أجانب، شعرت في اليوم الأول بوحشة كبيرة، خاصة أن المدينة قد خلدت للنوم في الساعة الثامنة تقريباً، والشوارع بدت شبه خالية نحو الساعة السادسة، وقبل ذلك كان الظلام قد بدأ يحل في الرابعة بعد الظهر تقريباً. كما لفت نظري أنني لم أشاهد شخصاً يبتسم، فوجوه الجميع كانت مكفهرة. بعد الثامنة عمّ صمت ثقيل ولم أعد أسمع وقع تلك الخطوات المتفرقة التي كانت تعبر في الممر بين حين وآخر، وعلى إثر ذلك الصمت الثقيل بدت المدينة أشبه بالمقبرة. في اليوم التالي عندما خرجت، وكان يوم السبت، توجهت إلى السوبر ماركت القريب، وكانت الحركة على أبوابه وفيه تبعث على الأنس والطمأنينة. لم أكن أتوقع أبداً أن أسمع كلاماً باللغة العربية، وباللهجة السورية تحديداً، وآخر ما كنت أتوقعه أن يكون هذا الكلام سيلاً من الشتائم البذيئة (من الزنار فما دون) يختمه الشاتم في كل مرة ببصقة ترافقها عبارة “تفو على أصلِكْ”. هذا بالذات هو ما حصل عندما كنت أملأ الأغراض التي اشتريتها من السوبر ماركت في حقيبة الكتف، فقد سمعت خلفي أحدهم يشتم أخت إحداهن بشتيمة يعرفها الجميع ولا داعي لذكرها هنا، مراعاة للذوق العام، وسأكتفي بترجمتها كما تترجم الشتيمة الإنكليزية الشهيرة المشابهة لهذه الشتيمة “تباً”.
التفتُّ إلى جهة الصوت لكي أتعرف على تلك التعيسة التي يقول ابن البلد “تباً” لأختها، فلم يكن هناك سوى ستة إلى سبعة أشخاص بينهم عتال يحمل بضاعة على عربة يجرها ويدخل بها إلى المستودع، ورجل ستيني يقف في الركن ويحاول تدكيك علبة في حقيبته، كانت ملامح الجميع أوروبية، ولذلك لم يكن من السهل عليَّ التكهُّن بمصدرها فعدت لمتابعة وضع أغراضي في الحقيبة، ولم تمض ثوان حتى دوت الشتيمة من جديد لأخت إحداهن، وزاد على شتيمته الأولى بلعن أبيها ووصفه بالكلب، وختم شتيمته بالعبارة نفسها: “تفو على أصلِك!”، التفتُّ مجدداً باتجاه الصوت، ووجدت إضافة إلى عمال السوبر ماركت ذلك الرجل الستيني نفسه وفي يده العلبة التي كان يحاول تدكيكها في الحقيبة، كان يبدو غاضباً وفاقداً للأمل، ويحاول تمالك أعصابه، ما أكد لي أن الشتائم صادرة عنه، وبعد أن تهيأ له أنه تمالكها، عاد ليضع العلبة في الحقيبة، وعدت أنا لمتابعة العمل نفسه، ولكن في هذه المرة سمعت الشتيمة تخرج على شكل صرخة لأخت المجهولة التي لم أتمكن من رؤيتها إلى الآن، فالتفتُّ إلى الخلف بسرعة وشاهدت الستيني يضرب العلبة التي كانت في يده بالأرض فتنفتح وتتدحرج منها لفافات الـسوشي، وهي أكلة يابانية كنت أسميها أنا “يبرق سمك”، ثم اتكأ بيده على الطاولة التي وضع حقيبته فوقها وتنهد محاولاً أن يعود إلى رشده، ويقول بالروسية “اللعنة!”. فأدركت أنه ليس الرجل المقصود. ثم تمكن العتال الذي كان يواجه صعوبة في إخراج عربته من المستودع من إخراج عربته والتحدث بشيء ما مع من في داخل المستودع، فخرجت عجوز معها مكنسة وأخذت تكنس لفافات السوشي.
وقفت أمام السوبر ماركت متصنعاً أني أنتظر أحداً، وأخذت أدندن بأغنية “يا مال الشام يلا يا مالي” بصوت أتقصد إسماعه لكل رجل يمر بالقرب مني من الخارجين من السوبر ماركت، لعلِّي ألفت نظر ابن البلد وأتعرف إليه فكان بعضهم يلقي إلي نظرة مستغربة والبعض لا يلقي إليَّ بالاً، والكل يتابع سيره. وعندما طال الوقت ولم يلتفت إليَّ أحد، اعتقدت أنه مر ولا يريد أن يتعرف إليَّ، فذهبت إلى الفندق وكنت قد اشتريت زجاجة فودكا لعلها تساعدني في النوم دون أن أتقلب عدة ساعات مصارعاً الأرق.
في اليوم التالي أسرعت في إنجاز الفروض الصباحية كافة، وتوجهت إلى السوبر ماركت لعلي أعثر على ذلك الرجل فيؤنس وحدتي التي ستمتد إلى شهر هنا، وبالفعل كنت من بين أوائل الزبائن الذين دخلوا إلى السوبر ماركت بعد أن فتحته من الداخل عاملة هناك، تجولت ببطء بين الجدران متأملاً الرفوف المختلفة، وكنت أقرأ كل ما هو مكتوب على البضائع، حتى لم تبقَ علبة سردين لم أتأملها أو كيس أرز أو سكر لم أقرأ ما هو مكتوب عليه، ومضى أكثر من ساعتين تقريباً قبل أن تصدح تلك الشتيمة من مكان ما، فنظرت بسرعة إلى مصدر الصوت، ولكن الجدران كانت تحجب عني الأشخاص الآخرين، فخرجت بسرعة باتجاه المخرج، وقررت أنني اليوم لن أنصرف قبل أن أقبض على ابن البلد الغاضب دائماً هذا.
وقفت أمام المخرج، وكنت أتحرش بكل خارج من هناك، إما بقول عبارة ما بالعربية، أو بإلقاء التحية باللهجة السورية، أو بدندنة أغنية ما. وأمضيت النهار كله تقريباً اًمام المحل متحملاً ذلك الصقيع محاولاً التغلب عليه بفناجين من الشاي والقهوة من الكافيتريا التي خلف الباب، مستغلاً فترات انقطاع الرجل، ثم بأقداح الفودكا، حتى حلت الساعة الخامسة تقريباً، فخرج رجل وأنا أجرع قدح الفودكا، فوجه إليَّ نظرة لم أستطع قراءة شيء فيها، فرفعت الكاس باتجاهه وقلت بالعربية:
– بصحتك.
وهنا ارتسمت الدهشة على وجهه وسألني:
* من وين الأخ؟.
– من سوريا.
أجبت وقد زغرد شيء في داخلي، فاقترب مني وصافحني وعانقني بحرارة، ثم أصر على أن يصحبني إلى بيته، وانطلق في حديث استمر منذ خروجنا من السوبر ماركت مروراً بالباص في طريقنا إلى القرية التي يقيم فيها قرب هذه المدينة الصغيرة وصولاً إلى طاولة العشاء التي اعتنت بها زوجته كما لو أن الزائر ضيف ذو أهمية خاصة، ولأنني لاحظت أن به جوعاً للحديث فلم أقاطعه أبداً، فهو منذ سنتين لم يتحدث بالعربية. وفي نهاية المطاف قرر أن يسألني عن سبب وجودي في هذه المدينة، فأخبرته أنني طالب في كلية الصحافة، وقد أرسلوني إلى هنا لكي أنفذ مادة التطبيق العملي في جريدة الفجر التي تصدر هنا، فوعدني بأن يصحبني إليها يوم الإثنين، واتخذ قراراً بأن أعيش في بيته طوال فترة وجودي هنا، ولم يكن لدي مانع خاصة بعد أن تناول عوداً كان في جعبة سوداء على ظهر الخزانة، أخرجه من هناك وأخذ يدوزنه قائلاً:
– من زمن بعيد لم أعزف… زوجتي لا تتذوق العود .. الربع صوت ثقيل على آذانهم.
ثم عزف وغنينا حتى الصباح تقريباً، وكانت زوجته سعيدة جداً كونها، كما أوضحت لي، لم تره منذ سنين سعيداً كما هو الآن. وقبيل الفجر حين تعبنا من الغناء تطاولت وسألته عن سبب وجوده في هذه القرية النائية التابعة لهذه المدينة النائية، فتنهد وقال بحرقه:
– السبب حمرنتي.
ثم أوضح بعد أن تنهد وصمت لبعض الوقت ناظراً إلى نقطة مجهولة وعيناه تلتمعان:
– جئت قبل ثلاثين عاماً لدراسة الإخراج المسرحي، وكنت أظن أنني بعد ست سنوات سأعود لأجد كل شيء قد تغير، وأنني حين أنتهي من دراستي ستكون البلد ترفل بالديمقراطية.
صَمت من جديد وبرقت عيناه وهو ينظر إلى نقطة مجهولة، ثم تابع:
– كنت غراً، لم تكن لديَّ أي معطيات تجعلني أتوقع هذا، كان ذلك مجرد أمل صبياني، ولهذا لم أترك أحداً لم أتطرق إليه بالنقد حتى الرئيس تطاولت عليه، لم اترك نكتة تسخر منه لم أروها، ولم أتورع عن توجيه الشتائم إلى الجميع، لم يبقَ أحد لم أشتمه، رويت النكات وجمعت رسوم الكاريكاتير التي تناولت أهم الشخصيات، وهكذا مرت السنوات الست مثل شربة الماء. وعلى الرغم من أن الجامعة اشترت لي بطاقة الطائرة، فقد فضلت البقاء هنا والعمل في قرية زوجتي لكي لا أمضي بقية عمري في زنزانة ما. وهكذا، كما ترى، مضى العمر ولم يتغير شيء.
* المهم أنك تعمل.
قلت مواسياً إياه، فقال بنبرة لا تخلو من التهكم وابتسامة لا تقل تهكماً:
– نعم، ليس هناك ما هو أهم من ذلك.
* وهل هناك إقبال على المسرح الذي تعمل فيه؟.
– نعم… يرتاده كل سكان المدينة يومياً تقريباً، وأنا أؤدي الدور نفسه منذ عشرين عاماً.
* وما هو الدور؟. سألته بدافع الفضول، فقال:
– العتال… أحضر في الصباح الباكر، أخرج البضاعة من المستودع إلى صالة البيع، وآخذ الصناديق الفارغة من الصالة إلى المستودع. وعندما تحضر السيارة صنفاً من البضاعة أقوم بإفراغ صندوقها. لقد أتقنت الدور جيداً على مدى خمسة وعشرين عاماً.
في منتصف حديثه تقريباً، توارد إلى ذهني ذلك العتال الذي كان يجر عربته وظهره لي عندما كنت أراقب الرجل الغاضب على لفافات السوشي، فسألته في محاولة لتلطيف الأجواء قليلاً:
* من تلك التي كنت تشتمها ذلك اليوم؟.
فضحك وقال:
– هههه، العربة المتهالكة، التي تارة يفلت دولابها وتارة تنخلع قبضتها وعبرها الجميع وكل شيء.
أمضيت الشهر كله في ضيافة كمال، كل يوم أذهب إلى الجريدة أقوم بتنفيذ المهمات التي يكلفني بها المشرف، ثم أتوجه إلى السوبر ماركت، وبرفقة كمال نتوجه إلى قريته حيث نسكر ونغني إلى الفجر.
وعندما ودعني في محطة القطار ونحن نحتسي البيرة في مقهى المحطة في انتظار القطار قال لي:
– هل تعرف… يتهيأ لي أنني سافرت لشهر إلى سوريا، أو أن سوريا سافرت إليَّ لشهر.
ثم نصحني:
– لا تكرر خطئي… حافظ على لسانك ولا ترخِ له العنان. الحياة في الغربة موت.
ثم ابتسم وأردف:
- أتعرف؟ كرر خطئي فنحن بحاجة لعتال آخر في السوبر ماركت .. سنسكر ونغني حتى نلفظ أنفاسنا.
لم يستطع أن يخفي دمعه وهو يودعني ملوحاً لي وأنا أقف على النافذة، أما أنا فعدت إلى متابعة دراستي في كلية الصحافة، ولكنني لم أعمل بنصيحته، فقد كنت على يقين من أن الأمور ستتغير خلال السنوات الأربع المتبقية في الجامعة، فكررت التجربة بحذافيرها، الفرق الوحيد هو أن زوجتي كانت من المدينة، ولهذا السبب فقد عثرت على عمل أكبر مكانة من عمل كمال، فأنا هنا أعمل ترجمانا في المحاكم وعلى نقاط الحدود وما يتسنى من معاملات الطلاق والزواج وجوازات السفر، وأحيانا أوفق بترجمة كاتالوغ لجرار أو براد أو غير ذلك. وها هو العمر يمضي بين المعاجم والقواميس ولا شيء يتغير.
ممدوح حمادة