[jnews_post_author ]
الخلاف حول الرحالة الأجانب يشبه الخلاف حول المستشرقين ودورهم في المنطقة العربية، فالكثير من المؤرخين والباحثين يعتبرون الرحالة الأجانب، وأكثر من اشتهر منهم هم من الإنكليز، مجرد مبعوثين من وزارات الخارجية أو الحرب أو من المخابرات، لاستكشاف المناطق التي تخطط تلك الإدارات لاحتلالها، وهذا صحيح بالنسبة لأكثرية الرحالة، إذ إن بعض أولئك الرحالة كانوا أدباء ممن أغراهم الترحال إلى الشرق بعد أن شاعت أفكار الرومانسية التي اعتبرت أن الشرق مصدر الروح، ومنهم شاتوبريان مثلا وفلوبير، وغيرهم. وأغلب أولئك الرحالة المرسلين قدموا معلومات غزيرة لمن أرسلهم في بعثات الاستكشاف، بل إن بعض هؤلاء كان لهم دور كبير في مستقبل بعض البلاد العربية، مثل غيرترود بل في العراق، وكيم فيلبي في الجزيرة العربية. وقد جاء المستعمرون بالفعل، واحتلوا بلادنا، وأخذوا بالكثير أو القليل من المعلومات التي قدمها لهم مبعوثوهم. ولكن المستعمرين رحلوا، وبقيت تلك الكتب وحدها بعيدة عن مهامها الأصلية، فما الذي تقدمه لنا نحن اليوم؟ الحقيقة هي أنه ليس بين أيدينا نحن العرب أي كتاب مرجعي يسجل أو يوثق تفاصيل الحياة اليومية للبنان ودمشق والمنطقة الجنوبية من سوريا ، أي حوران وجبل العرب، والديار المقدسة، أي فلسطين، في القرن التاسع عشر ، شبيه من أي وجه بكتاب جون لويس بيركهارت أو (بوركهارت حسب الترجمة التي صدرت لكتبه في مصر)، الذي ترجمه إلى العربية شاهر عبيد بعنوان ” رحلات في سوريا والبلاد المقدسة”. فالرجل كان قد جال في دمشق ولبنان وحوران وجبل حوران، أو ما يعرف اليوم بجبل العرب، وفلسطين، وسجل مذكراته اليومية التي تناولت طرق عيش الناس الذين التقى بهم، ووصف المناطق التي يقطنون فيها. وإذا ما أردنا أن نتتبع شكل عيش الناس في منطقة سهل حوران وجبل حوران في الفترة الزمنية ذاتها، أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فلن نجد أي مرجع عربي يمكن أن يخدمنا في هذه المتابعة قدر ما يقدم كتاب بوركهارت التوثيقي . ويمكن للكتاب اليوم أن يكون مرجعا في التعرف إلى تلك الحياة التي عاشها أجدادنا في المنطقة الجنوبية من سوريا. وقد وجدت لديه من المعلومات عن مدينة السويداء مثلا، وعن أحوال سكانها، وعن الطرق والينابيع كما كبيرا لم يكن من الممكن الحصول عليه في أي مرجع آخر. وبهذا المعنى ينتقل الكتاب من سجله الاستعماري، أي من كونه تقريرا لجهة مخابراتية أجنبية، ليكون مرجعا توثيقيا، يستفيد منها الكاتب الروائي والمؤرخ والسياسي والباحث العربي. أي أن ما يبقى من الرحلة الغربية إلى الشرق هو الوثيقة، ومثل كتابه عن سوريا كتب جون لويس بوركهارت كتابين عن الجزيرة العربية، وقد صدرا في المركز القومي للترجمة في مصر، الأول بعنوان ” ترحال في الجزيرة العربية” في جزأين، والثاني بعنوان ” ملاحظات عن البدو والوهابيين” وهو في جزأين أيضا، وترجم كلا الكتابين صبري محمد حسن. وكل من الكتابين غني جدا بالمعلومات والتفاصيل التي لا تتوفر في أي مرجع عربي. فأولا لم يعتد العرب أن يرحلوا إلى الداخل، أي إلى داخل بلادهم في محاولة للتعرف على المكان، وثانيا فإننا لا نعرف كتابة اليوميات، أو ليست من تقاليدنا الكتابية. والملاحظ اليوم أن كتب بوركهارت مكتوبة بحب وتعاطف وتفهم لكل ما يراه أو يسمعه.
وتشتهر غيرترود بل من هؤلاء الرحالة أيضا، وقد عرفت في العراق في عشرينيات القرن الماضي، وكان العراقيون يطلقون عليها لقب ” الخاتون”. وهي من أوائل المستكشفين الذين قدموا المعلومات للدوائر الاستعمارية قبل قدوم الجيوش. وقد ترجم إلى العربية كتابها ” الصحراء والمعمورة” كما ترجم كتاب إليزابيت بيرغوين بعنوان ” غيرترود بل . من أوراقها الشخصية ” وكتب مقدمة هذا الكتاب الروائي عبد الرحمن منيف، ومما قاله هناك إن الكتاب يجب أن يكون مرجعا في اللغة العربية عن أحوال العراق في العشرينيات من القرن العشرين. وإن المعلومات التي كانت ذات يوم رصيدا في جعبة الدوائر الاستعمارية، تصبح اليوم مرجعا لدراسة أحوال العراق في كثير من الجوانب، ومن الطريف أن تكون المعلومات التي تقدمها غيرترود بل غير موجودة في أي مرجع آخر يؤرخ لتلك الفترة. ولهذا فالكتاب يقدم اليوم مادة معرفية للقارئ العربي نفسه، في ظل غياب مواد أخرى مكتوبة بأيد عربية عن الزمان ذاته.
وهكذا فإن ترجمة كتب الرحالة الأجانب إلى بلادنا، تضعنا أمام مفارقة طريفة، فمن المستبعد تماما أن يكون أحدهم قد فكر فينا نحن حين كتب مذكراته، أو أرسل رسائله، بل كان يفكر في حكومته، وفي قرائه من أبناء جلدته، ولكن كتبهم تصبح بعد مرور كل تلك السنوات، وبعضها يزيد على المئة وخمسين عاما، مراجع لنا للتعرف على بلادنا وكتابة تاريخها.
———————————————-
ممدوح عزام