أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز :
لم يكنْ غموضُ النّصِّ السّرديّ، الذي شكَّلَهُ كافكا، مصطَنَعاً، أو مملًى على بنيةِ نصِّهِ، بل كان نتاجاً لرؤيةِ الكاتبِ لعالمهِ، وانعكاساً لآليّةِ تشكيلِ هذه الرّؤيةِ في بنيةٍ سرديّةٍ محدَّدةٍ، كما كانَ نوعاً من الاشتباكِ مع السِّياقِ التّاريخيِّ الذي قاربه، وتجلِّياً لمرحلةٍ ضبابيّةٍ مضطّربةٍ عاش فيها الكاتبُ، اقتضتْ منه أنْ يبتدعَ هذا النوعَ من الغموضِ ليعبِّرَ عن رؤيتهِ لعالمهِ، ويوازيَ بين هذهِ الرؤيةِ وبين ما كان يلفُّ عالمَهُ من ضبابيّةٍ لم يكنْ بإمكانهِ جعلُها جليةً واضحةً بسبب غيابِ الممكناتِ الموجودةِ في واقعه نفسهِ؛ ولذا فإنَّ الغموضَ في كتاباتهِ مرتبطٌ بـ( آليّةِ تعبيرهِ) عنْ واقعه، كما أنه نتاجٌ لآليّةِ تشكيلِ العناصرِ السّرديّةِ في مبنى أدبيّ محدَّدٍ؛ ولذا يمكننا القولُ : إنَّ الغموضَ الذي رشحَ به فضاؤه الأدبيّ غموضٌ وظيفيٌّ متقصَّدٌ، كما أنّه دليل غنى وعمق، بحسب تعبير أدونيس، ولم يكنْ هناكَ مندوحةٌ من أن يتجلّى بآليّة محدَّدة كي يكونَ الشّكلَ التعبيريَّ الأمثلَ الذي اختارهُ الكاتبُ لتشكيلِ فضائِهِ السّرديِّ المتفرِّدِ؛ وقد أمسى هذا الغموضُ سمةً بارزةً ميّزتْهُ من أقرانه، ودليلا على موهبتهِ الخلاقةِ التي لم يستطعْ غيرُهُ أنْ يقلِّدَها، أو يبتدعَ مثلها، مع كثرةِ المحاولاتِ التي تمتْ سعياً إلى ذلكَ. إنّ “كل خلّاق غامض بالنّسبة إلى معاصريه، لا الآن وحسب بل في التّاريخ كلِّه، وفي الشّعوب كلّها، وبهذا المعنى هناك حجابٌ بين الخلّاقين والقرّاء. لكنّ هذا الحجاب يتمزّق أمام الذي يجيئون بعد. وبما أنّ النّصّ يبقى هو هو، لايتغير، فإنّ تهمة الغموض دعوى باطلة : قناعٌ يخفي به القارئ ضعف ثقافته وقصورها، وإصراره على أن يفهم ما تغيّر بذهنيّة لم تتغيّر… هكذا يبدو أنّ الغموض وصفٌ يُطلقه القارئ على نصٍّ لم يستوعبه” ككما يقول أدونيس.
ومع أنّي قرأتُ فرانز كافكا قبلَ أربعةِ عقودٍ ونيِّفٍ بترجمةِ المصريّ مصطفى ماهر، إلّا أنّني شرعْتُ بقراءته من جديدٍ بترجمة السّوريّ إبراهيم وطفي من خلال ثلاثة مجلّدات زوّدني بها الصّديق الأديب علم الدّين عبداللطيف يتقصّى الأوّل تلقّي كافكا في النّقد العربيّ، ويتمحور الثّاني حول روايته الشّهيرة (المحاكمة) مع ترجمة نصّها وتفسيراتها، ويلاحق الثّالثُ أربعةً من نصوص كافكا المتميّزة : الحكم، والوقاّد، والانمساخ، ورسالة إلى الوالد؛ فيحرص على ترجمتها وتقصّي آليّات تلقّيها وتأويلها في النّقد الألمانيّ، والنّقد الأوروبيّ.
وقد أشار الأستاذ وطفي، في بداية تقديمه للمجلَّد الأوّل، إلى أنّ ما نشره من مقالاتٍ في هذا المجلَّد لا يرقى إلى مستوى الدّراسة النقديّة الحصيفة بل هو مقالاتٌ صحفيةٌ تمثِّلُ انطباعاتٍ سريعة عن كافكا ونتاجه لاغير.
والواقع أنّ هذا المجلَّد اشتمل على مقالات صحفيّة متدنّية المستوى، ولا ترتقي إلى المستوى النّقديّ الذي يؤهِّلها للاحتفاء بقامة كافكا العملاقة، أو رصد آليّات تلقِّيه في الوعي النّقديّ العربيّ، ومنها بشكل خاصّ مقالة نزيه الشّوفي الذي ينظر باستصغار إلى منجَز كافكا الأدبيّ، ويرى أنّ “رسالته إلى والده” بشكل خاصّ ليس لها أهميّة على الإطلاق، ولاتصلح لتأويل إبداعه، أوتحليل شخصيّته، وفي رأيه أنّ الغربيّين ضخّموا كافكا كثيراً، ونظروا إلى انطوائيّته على أنّها ترميزٌ عظيمٌ لواقع هذا العالم، في حين أنّ كافكا، في رأيه، لم يكن سوى انطوائيٍّ عمل من “الحبّة” “قبّة”، واستخدم أوصافاً مقذِعةً وغير محتشمةٍ في وصف والده، وأثبت بذلك أنّهُ ولدٌ عاقٌّ لا أكثر!!
ولكنّ القارئ للمجلّد الأوّل يعثر، في الواقع، على مقالات ودراسات عميقة تصلحُ مدخلا لقراءة كافكا، والقبض على الجوهريّ في عالمه، ومنها بشكل خاص مقالة لـ(فرج العشّة)، ودراسة لـ(عبدالوهاب أبوزيد) نُشرتْ في حلقتين؛ حملتْ الأولى عنوان (الهُويّة الممزَّقة)، وحملت الثّانية عنوان (الرّسالة العملاقة)، كما نعثر في المجلّد الأوّل على قراءات رهيفة أخرى لعالم كافكا الأدبيّ منها قراءة الشّاعر البحرينيّ قاسم حدّاد (واقع يقرأ القلعة)، وقراءة الأديب المصريّ محمود الوردانيّ ( ضرورة كافكا)، وقراءة الكاتب السّوري ناصر ونوس (فرانز كافكا وسيرة معاناته مع والده).
وفي ظنّي أنّ كلَّ ما نُشِر في هذا المجلّد، على أهميّته، لايتجاوز ما كتبه طه حسين عن كافكا في منتصف الأربعينيّات من القرن الماضي، في مجلة (الكاتب المصريّ)، ثمّ أعاد نشره في كتابه ( ألوان)، بل إنّه يقصِّر عنه كثيراً، وليت الأستاذ وطفي نشر في هذا المجلَّد هذه الدِّراسة المتميّزة لعميد الأدب العربيّ، واحتفى بها بوصفها المقاربة العربيّة الرّائدة والعميقة لعالم كافكا، مع أنّها تخرق الإطار الزّمنيّ الذي وضعه لكتابه، والذي حدّده بين عامي ( 1994) و(2005).
الجدير بالذّكر أيضاً أنّ الأستاذ وطفي نشر في هذا المجلَّد قصّتين نسجَتا على منوال كافكا في تصوير الاستلاب الذي طال جوهر الإنسان في كلّ مكان، كتب الأولى نبيل صالح، وسمّاها (التّحوُّل)، وكتبت الثّانية أنيسة عبود، وسمّتها (قامات مُزوَّرة)، كما أنّه نشر في المجلّد نفسه قراءة لرواية ( شبيه الخنزير) الذي نحا فيها الكاتب العراقيّ وارد بدر السّالم منحى كافكا في تحوُّل الإنسان إلى حشرة أمام آلة الاستبداد المتوحِّشة.
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ المجلّدات الثّلاثة نشرت عن دار الحصاد في دمشق بتجليدٍ فنيٍّ فاخرٍ يرضي رغبةٍ القارئِ الحصيفِ الرّاغبِ باقتناء الكتبِ النّفيسةِ الممتعةِ للعقلِ والرّوحِ معاً .
- ناقـد سـوريّ