علي صقر – الناس نيوز :
أخذها الطريق إلى شارع الحضارة، الناجي الوحيد من المطحنة السورية، والذي يضج الآن بالحركة ويُضاء بالأمبيرات أي الطاقة البديلة.. بهرت بالإضاءة التي تعمي قلوب الغلابى، وبواجهة المحلات من ماركات ألبسة عالمية رغم الحظر العالمي لمقومات الحياة.. نعم انبهرت رغم أنها تمر بالشارع نهاراً لتشابه الضوء مع حارتها.. كانت حيث تسير بالعتمة وعتمها المكرر تشعر أنها ترى جيداً رغم هذا العماء، ربما حدقة عيون السوريين توسعت وسع هذا الظلام، لفت نظرها واجهة سكوريت ناصعة النظافة وخلفها بلوزة جميلة. حيث دهشت من السعر المدون، الذي تجاوز راتب زوجها لنصف سنة، ومع صفيرها الحاد لسعر البلوزة وقفت بجانبها امرأة بكامل أناقتها، ولا واجهات سكوريت العالم يتسع للباسها ونظافتها الخارجية، واستمرت بالتصفير الحاد وهي تنظر للمرأة شديدة الأناقة، وهنا ومع تلاقي نظرات المرأتين ودهشة الأنيقة واستغرابها لاستمرار تلك المرأة البسيطة الثياب والملامح بصفيرها الحاد والثانية فاتحة فمها لشدة أناقتها..
اقتربت ووضعت أنفها حول جيد أم الصفارات الحادة، والتي بدورها ابتعدت عنها معتذرة..
عفواً لا تؤاخذيني آكلة بصل بزيت
جاوبتها من رأس أنفها، أووو رغم البصل المقرف إلا أنك تضعين عطر رائحته لم أشمها بحياتي، رغم أنني كنت قادمة من باغيس، وتقصد باريس، من أسبوع واشتريت عطر من منبع العطر مباشرة وخلطة خاصة لي إلا أن عطرك رائحته أجمل وكأنني شممته من قبل، وكأن منبع العطور العالمي الباغيسي صنعه لي، ورغم ذلك ترشين منه.. شو اسم زوجك.. طبعا كبرياؤها لم يسمح لها بسؤالها عن اسم العطر.
جاوبتها، موظف بالمصفاة.. اسمه عارف المحمد، تركتني ودخلت المحل لتصبح داخل واجهة السكوريت، ولدقائق اختف الألبسة من الواجهة ليختفي زوجي في نفس اليوم بظروف غامضة.
لم يخطر ببالي البحث عنه عند أصدقائه ولا أقربائه، أعرفه جيداً أمضى عشرين عاماً معي من الورشة للفرشة، ومن الفرشة للورشة، كانت والدته تقول عنه إنه أطيب أولادها، إلا أن حظه زفت، وتنظر إلي بطرف، عينها، بس وينه الآن. هي أول يوم من زواجنا ما بينام بالبيت، بس.. لا بس ولا شي، صار لازم دور عليه عند أمه ورفقاته على قلتهم ولازم بلغ الشرطة.. لا.. ليش الشرطة، ولا بعمره طلع صوته على حدا وكان يسامح اللي يزعجه وكنت أعاتبه ويسكتني بقوله، “المسامح كريم”، يا عيني هو اليوم اللي اختفى فيه نسيت أكوي له ملابسه ياااه ونسيت ذكره بتمشيط شعره وتلميع حذائه وتهذيب ذقنه يااااه إلي عشرين وأنا أنسى كوي ملابسه وتمشيط شعره … متسائلة.
معقول هربان مني؟ يااااه يا عارف ومع لهاثي بالبحث عنه بالمستشفيات العامة والخاصة، وكلما فتح لي عامل براد الموتى ويكشف لي عن وجه مثلج أرتعش وأهرب إلى المخافر والسجون دون جدوى لم يأت ولا أي إحساس أنه موجود في تلك الأمكنة وأعرفك كما تعرفك حمص.. وفي اليوم الرابع لغيابه ولأول مرة اتفقد جيوبه وموبايله والذي لا يضع له كلمة سر، لا رسائل على المسنجر ولا واتس أب، يااااه الرسائل العادية كان موجود رسالة من قريب بعيد لعارف كتب له، “أخي عارف ما في شيء من قيمتكم قارورة عطر راش لزوجتك المحترمة، ستصلكم مع صديق لي أعرف أن ريحة الوطن أزكى وأجمل، إنما لتلك الرائحة والتي تشبه ريحة أول زخة مطر بالصيف بتذكرني فيكم وبالوطن”.
وهنا شممت تلك الرائحة وأنا أتابع قلي البل بالزيت، ياريته أرسل لي قارورة عطر تذكرنا ببلادهم حيث الكهرباء والبرجيات والعيش برفاهية، أو لو أنه أرسل لنا حوالة مادية بدل تلك القارورة كانت ساعدتنا للعيش المؤقت، لإنه الحالة بدها حوالة.
في اليوم الخامس وبعد اتصالات مع أقربائي وأقربائه والموظفين منهم بسلك الأمن وكل أصدقائه، لخوفنا من أن الأمن أخذه تشابه أسماء كما يحصل وكما سمعنا، وكلما رن موبايلي أو موبايله لرقم لا يحمل الاسم ارتجف لخوفي من أنه مخطوف ويحتاجون فدية، وأول ما يخطر ببالي هو أننا لا نملك شيئاً لنبيعه مقابل الإفراج عنه، وسمعت من جارتي والتي ابنها مخطوف مع المسلحين من أن المسلحين لم يطلبوا مالاً بل طلبوا المقايضة أي الإفراج عن مسلحين لدى سجون النظام مقابل الإفراج عنه، وهنا تذكرت قريباً لعارف والذي كان يعمل على بسطة بالكراجات والآن لديه مجموعات مسلحة.
يا خوفي يكون عارف مخطوف عند المسلحين، ويطلبون قريبه أبو البسطة مقابل الإفراج عنه، يا مصيبتك يا زوجة عارف على المقايضة النشح، شو جاب عارف لا أبو مجموعات البسطات.
يعود الرنين من رقم آخر.
يا ويلي الرقم ما عليه اسم ومن أرقامه الذهبية ما يكونوا مفكرينه كان يطلع مظاهرات، والله وكل الحارة بتعرف أن عارف من فرشته لورشته، وبعد دوامه يشتغل عند جارنا أبو خالد بتنجيد الكراسي، ياااه ويل ويلي معقول أخدينه لإنه قال ليش أكتر أقربائي ومعارفي يزينوا صدر صوالينهم بآية الكرسي معقولي فهمانينه غلط وأنو قصدوا بالكرسي السياسية، مين الابن الحرام اللي فاقعه التقرير، يا عيني هوي كان يهمس لي من أنو كتاب التقارير تجاوز عددهم سكان حمص، من اليوم ورايح مرح أحكي شي حتى بيني وبين حالي، بلكي سمعوا الحكي، يقولوا للحيطان آذان، رغم أن أكثر جدران مدينتنا انهدمت.
هي صرنا باليوم السابع ولا واحد منا استراح وكل واحد منا بمكان.
وفي العام السابع لغيابه ومن بعد ما شممت كل رائحة ثيابه والأمكنة التي كنا نزورها والكثير من النذور للأولياء الصالحين، وأنا في طريقي حيث خانتني قدماي وبشكل لا شعوري كنت أقف أمام واجهة السكريت بشارع الحضارة، المكان الوحيد الذي زرناه أنا وعارف منذ أكثر من ثمان سنوات أي قبل اختفائه بسنة، لفت نظري وقوف سيارة فخمة ومفيمة النوافذ بمنتصف الشارع وخروج مسلحين، ليفتحوا الباب لست بكامل أناقتها قلت بيني وبين نفسي لا بد أنها زوجة مسؤول سأطلب منها مساعدتي بالبحث عن زوجي، وبدل من أن أقترب منها اقتربت هي مني مع ابتسامة شعرت أنها من القلب، اقتربت وشمت جيدي وقالت ليش المرة مو حاطه عطر راش بالبصل والزيت. هنا ارتجف قلبي وتذكرتها وتابعت كيفه زوجك عارف المحمد الموظف بمصفاة حمص.
وقع قلبي على الأرض وسرعان ما لملمته وحكيت لها ما حدث معه
وللأمانة فوراً اتصلت بزوجها، وابتسمت لي قائلة بثقة
ربع ساعة وبيكون عندك بالبيت، وقبل ما يكون عندك ممكن تقليلي شو سر الراش، لأني جبت منه من المصدر الأساسي بباغيس بس ريحته ع جيدك كان ألطف وكتير حميمي.
أجبتها وأنا أتلعثم وكلي لهفة لرؤية عارف.
ربما لأنه ممزوج بريحة البصل، وتراب زخة أول مطر بذكرك كيف كنتِ وكيف صرتِ، قلت ذلك وتنفست الصعداء لأن عارف حي وسنلتقي ونتبرعم.
رن الجرس الذي أمام مكتبه الفخم، فدخل شاب حليق الرأس طويل الذقن، وضرب الأرض بقدمه صارخا، “حاضر سيدي”.
يا ابني انزل عالسجن وجبلي الموقوف عارف المحمد، بعد أقل من دقيقتين كان عارف المتورم الوجه والقدمين ماثلاً أمامه وبدأ عارف يهلوس ويحكي دون أن يطلب منه الحكي، والله يا سيدي ما بحياتي طلعت مظاهرة وكل عمري أطلع مسيرات وإجباري عني، ووقت كانوا يطلعوا مظاهرات كنت حاول أمنعهم، وحاولت أمنعهم من أنو عيب يقوصوا لبعض لأنن أولاد حارة، بس والله يا سيدي حاولت وحاولت ولساتني عم حاول.
وصحيح أخوال زوجتي كانوا معارضة ودخلوا السجن لأكثر من عشر سنوات بالثمانيات، ورغم الشي بالأحداث طلعوا مظاهرات وحاولت وعيهم والله يا سيدي زوجتي بريئة منهم.
وأنت شو علاقتك مع عطر راش
راش شو وعطر شو يا سيدي أنا بحط كولونيا بعد الحلاقة ومو كل الأوقات، ورفيقي بالإمارات أرسل الراش لزوجتي، وبس وهيك وحياة الله والإمام علي بس هيك.. ريحة شو؟ أنا تربيت ع شم ريحة فلط روث بقراتنا لي كنا ننام نحن وياهم وقت كنا بالضيعة، وريحة القز والحبق والنرجس، وبخور مريم وحياة مريم أم النور مو عم أحكي إلا الصدق يا سيدي.
ابتسم وقال أنت حر. وأنا خارج سمعته يقول لزوجته، آسف حبيبتي أخرته عن الربع ساعة دقيقتين.
وأنا أتنفس حم وأتمتم دقيقتين بسبع سنوات يا بن الـ ….
ومع دخولي حارتي مروراً بالإنشاءات وباب سباع وباب عمر سابقاً، وعكرمة وما تبقى من حمص كانت رائحة البصل منتشرة في كل حمص ترحب بي.
همست لي بصل بالراش يا عارف
يا لتلك الرائحة..!