محمد برو – الناس نيوز :
بعفوية بالغة يسرد الراوي حكاية الضياع، التي تنهش أولئك الشبان الذين عبروا البحر إلى الفردوس الأوروبي المنشود، وهم يجتمعون في مقهى فرنسي، يجالدون المحال في لملمة شتات أرواحهم وأفكارهم، وهم يؤسسون تنسيقية ثورية، جرت العادة منذ بدء الثورة السورية على تشكيلها في كل مكان متاح، سواء كانت بفاعلية أم بدونها، فهي في وجهٍ من وجوهها آلية لحماية الماضي من الضياع، وحماية الذات من الانكسار، وبذل ما يمكن للبقاء في مواجهة قهر النظام، ومبرر للصمود في مدن الشتات.
تصدمنا الرواية ( تنسيقية مقهى بولييه للكاتب السوري عبد الناصر العايد ) بواقعيتها المفرطة في كثير في تفاصيلها، وهي تتحدث عن سيجارة الحشيش التي لا بد منها في تلك الحيوات البائسة على أرصفة المقاهي، فالمأساة لا تحتمل إلا بها.
يؤكد السرد في الرواية على دور أجهزة المخابرات الأوروبية، في صناعة الهشاشة المرعبة التي كانت تتسم بها التشكيلات المعارضة، بدءاً من مجموعات الناشطين والتنسيقيات، وصولاً إلى الفصائل المسلحة التي تم اختراقها منذ الساعات الأولى، عبر أجهزة الإنترنت الفضائي وقبضات الاتصالات اللاسلكية، التي كانت تنقل للجهة المانحة كلَّ حديثٍ أو تفصيلٍ يمكِّنهم من إدارة تلك المجموعات، والتحكم بها أو تصفيتها بمنتهى اليسر.
يقدم لنا ثبتاً بأسماء المشاركين في الاجتماع الأول للتنسيقية، مع خلفياتهم الطائفية، وكأنه يقدم لنا عملاً توثيقياً نزيهاً من خيال الروائي وإبداعه.عن رحلات الموت وعشرات العقبات التي تعترض اللاجئين، بدءاً من السفر بقارب مهيئ للغرق، أكثر من تهيئته لنقل المهاجرين الفارين من جحيم حرب لا يعرفون متى تنتهي وعلى أي جنب ستستقر.
الملفت للنظر أن هذه التنسيقية كانت في عام 2018 أي بعد أن استقر الشعور العام، أن أي سعي للمضي قدماً لا يعدو عن كونه ضرباً من ضروب العبث، والحفر في جدار المحال المصمت، فالمجتمع الدولي بكل أطيافه يعمل على إعادة تعويم نظام الأسد دفعاً أو جذباً.
تحدثنا الرواية عن مدى الاستهانة بالقتل أو بقتل الملايين إن لزم الأمر، عند ضباط وقادة الأجهزة الأمنية، الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن هذا النظام وبقائه، والذي يعتبر في وجهه الأعمق تجسيداً لبقائهم وبقاء امتيازاتهم وتسلطهم.
يجمع في سياقات السرد لفيفاً كثيفاً ومختزلاً بعناية، لمعظم ما جرى تناوله في الحوارات العامة والخاصة، وعبر منصات التواصل ومقاطع الفيديو ومجموعات الواتس آب، حول قضايا الثورة منذ ولادتها مروراً بتحولاتها الحادة، وصولاً إلى شيء تصعب تسميته على وجه الدقة، ويختلط فيها الثوري بالرمادي بشكلٍ تهكمي واضح.
كما هو التخندق الطائفي في زمن الحرب، بفظاظته وبهيميته عرياً عن أي رتوشٍ تجميلية، تجري على لسان أبطاله جردة حسابٍ من عهد الاحتلال الفرنسي، الذي حاول جعل سوريا دويلات ممزقة، وما حدث بعدها، وصولاً إلى لحظة اشتباك أحد الرواة وكان ضابطا عسكرياً، مع ضابطٍ علوي يؤكد لخصمه السني وبكل حدةٍ طائفية، أنّ ما يجري هو تصفية حسابات قديمة، منذ اضطهاد العلويين على أيدي الإقطاع السني، مروراً بمجزرة مدرسة المدفعية، وكيف أنهم ثأروا لها بمجازر حماة المريعة.
يذهب بنا عبد الناصر العايد الى واقعنا المأزوم فيشرحه أكثر ، حتى انتماؤك الطائفي لا يستطيع حمايتك حين تكون في غير جبهة النظام، صحيح أنّ الكثير من العبارات والمواقف الطائفية ترد على ألسنة العديد من ضباط الأمن أو الموتورين طائفياً، إلا أن الوقائع تؤكد أن هناك طائفتان، طائفة النظام ومواليه والمقاتلين في سبيل بقائه، وطائفةٌ أخرى هي جميع الآخرين من أطياف الشعب السوري .
تتوالى صور المأساة والمقتلة السورية بتواترٍ سريع، يمنعك من التقاط أنفاسك، فمن ساحات الاقتتال والقتل العبثي، إلى زنازين المعتقلات وأقبية الأمن، إلى الفتيات المغتصبات وجثث الموتى التي تملأ أقبية السجون، إلى صور الضياع على أرصفة المقاهي، في دول الشتات …
تنسيقية بولييه ” السورية في باريس ” رواية حافلة وبشكلٍ كثيف، بقصص الموت المخيم على مساحات الوطن وبالرعب الجاثم على الصدور، بالرغم من طريقة السرد المتداخلة في الكثير من المواضع، بين ما يجري في أقبية السجون وبين مباراة لكرة القدم تجري متابعتها في ذلك المقهى وخارجه على مساحة الرواية، وكأنها تريد أن تقول: إن هذه الحياة وهذه الثورة في بعض أوجهها تشبه إلى حدٍ ما كرة القدم، هذه الطريقة التي تقسط جرعات الألم وتشتت تركيزها، إلًّا أن القارئ بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه وهو يتابع ذلك السيل اللزج من السخام الأسود الممتزج بالقيح والدم، والعذابات والمعاناة المتعددة الأشكال والتي تفضح بشكلٍ مذهلٍ قدرة الكائن البشري، على ابتكار أنماط التعذيب والقهر.
يختتم “العايد” مجازاً ” العائد ” السوري ، الفرنسي ، او بأختصار كل السوريين في بلاد الشتات اللذين “تعولمو” دون نقصان من “سوريتهم ” التي تشبهم أرواحهم المسافرة إلى أفق يستعيد المستقبل وإن طال ، يختتم الرواية بنصٍ لرسالةٍ مزعومةٍ من جابر أحد أفراد التنسيقية، وهو يكشف عن انتمائه السري لمجموعةٍ داعشية، قد أعدت مخططاً جهنمياً للسيطرة على مدينة باريس، وتدميرها وتهجير أهلها بطريقة وحشية، وكأنها تؤكد أنَّ لا مبالاة المجتمع الدولي بما يجري في سوريا، من قتل ممنهج، سيحصد نتائجه بتشكيلات إرهابية عابرة للحدود، ولن تبقى النار التي تحرق سوريا وأهلها محصورة فيها.
تعبر بنا عبثية الهويات التي قسمت المجتمع السوري ” السنية والعلوية والدرزية” أو فضحت انقساماته الموجودة أصلا والتي كانت إحدى علل هذه الحرب وأدواتها القذرة.
تقع الرواية في ثمانية فصول وينقسم كل فصل إلى ثلاثة أقسام، يحمل معظمها اسم أحد شخوص تلك التنسيقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية “تنسيقية بولييه” للكاتب عبد الناصر العايد
صادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، ديسمبر 2020
تقع الرواية في 250 صفحة