د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
تطرق الثورة السورية باب عامها الثاني عشر، ولا يزال شعار ” الأسد أو نحرق البلد ” هو محصلة وعصارة فكر نظام الأسد ، لا أحد يعلم ما الذي يرأسه رأس هذا النظام ا، الدمار والخراب وبقايا حياة، أم على الملايين الذين اختاروا الموت سبيلاً نحو حياة أفضل… عشرية كاملة تحول بعدها أعداء البارحة إلى أصدقاء يسعون نحو احتواء من كان مسؤولاً عن أكبر تغريبة في العصر الحديث، بعد أن تغير تموقع المصالح على شطرنج الجيواستراتيجيا، لكن ولحسن الحظ فللبسطاء من كتبة التاريخ رأي آخر.
التغريبة السورية التي اضطرت الملايين لمغادرة أرضهم نحو آفاق أرحم، صارت تزهر نصوصاً توثق لما عايشوه.
في فرنسا حيث يعيش عشرات الآلاف من السوريين الفارين من أتون الحرب، صدر مؤخراً كتابان لسوريين اثنين “غرفة في المنفى” لعمر يوسف سليمان عن دار نشر “فلاماريون” و” ثائرة حلب” لضحى المعري، عن دار نشر “ألبان ميشيل”.
وفي الوقت الذي أثار كتاب سليمان الكثير من الجدل من خلال تصويره للحياة في ضاحية “بوبنيي” الباريسية على أنها معقل للتطرف الإسلاماوي والأصوليات بأنواعها، هو الهارب من نيران حرب لم تعد أطرافها تعرف عدا الأبرياء الذين لا يزالون يسقطون، وعرف ترحابا من الأوساط اليمينية، خصوصاً المتطرفة منها، والتي استغلت كل ما يمكن استغلاله كوسيلة للوصول إلى الإليزيه قبل أن يحسم إيمانويل ماكرون أمر الانتخابات هو الذي عرف كيف يستغل فزاعة اليمين الفرنسي جيداً.
لا تزال الثائرة ضحى المعري تحصد الإعجاب هي التي وقعت كتابها برفقة “تريستان دو شوزول” شهر يناير/كانون الثاني 2022.
ينطلق نصها من وصف مشهد انتظار في طابور طويل ذات صباح بارد أمام إحدى الإدارات الفرنسية بغرض دفع وثائق طلب اللجوء، ليتوقع القارئ أنها ستسرد عليه يومياتها كطالبة لجوء في بلد ظل معدل استقباله لضحايا الحرب السورية من الأضعف في المنطقة الأوروبية، لتدخل بعد هذا الجزء مباشرة في سرد من نوع آخر.
تبدأ المعري من اليوم الذي التقت فيه شابا ذو سبع وعشرين ربيعاً على عتبة بيتها العائلي في مدينة حلب ، شمال سوريا ، سنوات السبعينات من القرن الماضي لتعجب به وتضطر لترك الدراسة، في حين لم يتجاوز سنها الأربعة عشر سنة.
تحكي ضحى قصة الأميرات التي عاشتها في بدايات زواجها، وقصة مدينتها وتقاليدها في تلك الفترة، قبل أن تتحول القصة الرومانسية إلى كابوس مريع، حين تكتشف أن الشاب سليل العائلة البرجوازية زوج عنيف، مقامر، مستهتر، خائن.
تسافر معه إلى بلاد كثيرة مقتنعة بإمكانية إصلاح الأمور، تحاول الانتحار مرتين، قبل أن تقرر الانفصال عنه تماماً بعد أزيد من عشر سنوات من الحياة المشتركة وطفلين لم يتفق على إنجابهما الأبوان.
سرد ضحى المعري يتناوب بين حقبتين، أولى قريبة، عن الأرض التي استقرت فيها، وأخرى من الذكريات القديمة تعيد بها بناء سوريا التي اضطرت لتركها مرغمة، كطريقة لإبقائها حية في وجدانها.
سنتعرف معها على البلد عبر حقب مختلفة، عن بحثها المستمر عن الحرية والحب، هي التي اضطرت لمواجهة الكثير من المواقف الصعبة بعد طلاقها وعودتها من أوروبا.
تروي بكثير من الأسى الصمت الذي فرضه والداها حول مأساتها، لم يسألها أحد يوماً عن حقيقة معاناتها وما اضطرها إلى الطلاق، منعا عودتها للتعليم، لم يرضيا يوماً على طريقة لباسها، حاولت أمها بشتى الطرق سلب ابنيها هي التي لم تلد صبيا، ثم تزويجها من شيخ عجوز حتى يرضى المحيطون بهم.
تضطر ضحى في كل مرة أن تقوم بثورتها شاقة طريقها نحو آفاق أرحب كما تتصورها هي، تنجح في استكمال مشوارها الدراسي، ثم العمل قبل أن تشتري شقة بدمشق، المدينة التي ستتبناها، وتستعيد أمومتها وأحلامها وحقها في الحب من دون زواج، هي التي تبلورت رؤيتها نحو العالم ولم يعد بإمكان أحد أن يثنيها عن قراراتها.
تستمر المعري في سرد تاريخ سوريا الإنساني انطلاقاً من منتصف التسعينات وحتى بداية الثورة السورية تحكي فيه مغامراتها كمرشدة سياحية، أجواء الفرح والبهجة التي تعشقها، أصدقاءها وعلاقاتها في الداخل السوري، قصص بسيطة عن التاريخ الفعلي لبلد لن يطيل قبل أن يتحول إلى جحيم وسيرتها إلى تريللر واقعي ستعيشه برفقة ابنيها، اللذين سيختطف أحدهما وسيقبع في السجن قرابة السنة ويفرج عنه بعد أن يكون من المقرر إعدامه لأن أحد أصدقائه وشى به بعد أن رفض المشاركة في أغنية في مديح الرئيس “الآبد”، أما الثاني فسجن لمجرد الاشتباه به.
حالة برانويا سترويها ضحى المعري كما عاشتها، هي التي ستضطر بعد أن أفرج عن ولديها إلى الهجرة، نحو مصر، ثم تركيا، قبل اليونان وإيطاليا ثم فرنسا حيث ستسقر.
في الرحلة التي ستطول، ستعيش السيدة الخمسينية، ثورات وليست واحدة، ثورتها ضد السرطان الذي سيهاجمها مرتين وتكسب معركته في المرتين، جحيم التهجير القسري هي التي ستمنع من العودة إلى القاهرة حيث يوجد المطعم الذي افتتحته بمساعدة بكرها، ثم قطع المتوسط على متن قارب سينقلب قبل أن يصل وجهته، جهنم انتظار وثائق الإقامة بعد أن يحول نظام تشغيل لعين دون أن تحصل عليها في وقتها، وأخيراً أزمة الكوفيد التي ستضطرها للعيش مرة أخرى على الإعانات الحكومية التي تمقتها، والكثير الكثير من الحقائق عن بلد تغتصبه عائلة مدعومة بالطائفة منذ أكثر من نصف قرن ، لا شيء يثني فسادها، ولا يقف في وجه جرائمها، ستحكي جرائمه من ثورة حماة إلى البراميل المتفجرة، والقنابل الكيماوية وغيرها الكثير من المجازر والتوقيفات والتعسف الذي لن يوفر أحداً مهما كان سنه أو جنسه.
تجربة ضحى المعري السورية لن يخرج منها القارئ بارئاً، سيتقلب مزاجه بحسب ما سترويه الثائرة ضحى، سيحلم، ثم يغضب، ثم يفرح، سينتكس وبعدها يقوم من جديد، لن يمل من التعاطف مع الكاتبة التي تحكي سيرة إنسان يعشق الحياة، ويعرف كيف يقوم بعد كل انتكاسة، يرفض الشفقة، خلق الفرص، ورفع التحديات، والأهم كيف يحافظ على قدرته على الحلم وتحقيقه.