د. غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
يبدو أنه أسبوع مآسي من نوع جديد على النساء في المنطقة العربية جميعاً، في ومان بعد حادثة القتل “التمشهدية” للطالبة المصرية نيرة أشرف على يد أحد المعجبين ذبحاً من الوريد إلى الوريد!!! ، أمام مدخل جامعتها بدم بارد، تحت متابعة حثيثة من كاميرات الموبايلات التي سعت لتأبيد اللحظة !!؟ .
هز خبر مشابه وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قادماً من الأردن، حين تم رمي طالبة التمريض الأردنية إيمان رشيد بالرصاص داخل الحرم الجامعي. !!؟
اسمان وحادثتان متشابهتان، على الرغم من المسافة البعيدة التي تفرق الضحيتين، في فضاء عربي درج أن يسفك دم نسوته بعشرات الآلاف سنوياً، تحت تعتيم تام، وتحت العديد من العناوين ، الشرف والتدين وتقاليد المجتمع والكبت النفسي والجنسي ، وغير ذلك الكثير من المسيمات السامة والمفاهيم المقلوبة … .
تخضع الكثير من القواضي فيه لعمليات تجميل لوقائعها، فتمرر كحوادث موت عادي، أو حتى انتحار، لحماية الجناة من أفراد العائلة المقربين أو ممن لا تجمع بهم علاقة، في إطار تسوية لحماية العلاقات العشائرية، وحتى درءاً للشر المتوقع من عوائل الجناة، بعد أن تكون قصص الشرف والقذف في حق الضحية قد استنزفت جميعها، ففي العموم لا يساوي دم المرأة “العربية” الكثير في سوق الموت كما الحياة، والضلع الأعوج هو منبت الضرر على الدوام، يستحق ما قد يلحق به من شرور، على الرغم من أن الطبيعة جعلت من الإناث لدى أغلبية الفصائل الحيوانية التي تتكاثر بتزاوج النوعين، الأكثر قيمة، فلها وظيفة الانجاب، التي تمتد لوقت محدود.
أسبوع الجزائر أيضاً كان حافلاً بقضايا القتل والاعتداء على النسوة، إذ لقيت تلميذة بعمر الرابعة عشرة حتفها بعد أن تعرضت لطعنات من والدها إثر إعلان مجهول المصدر عن ضياعها، ما أدى لمشاركة صورتها على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي لم يتحمله الوالد الذي يبدو أنه يعيش منفصلاً عن أم ابنته، في حين أجهز أحدهم على طليقته على ما يبدو شرق البلاد.
والواقع أن قضايا العنف ضد النساء ليست بحديثة العهد، فنجد مثلاً الرحالة والمستشرق الفرنسي أوجين فرومونتان يحكي في كتابه “سنة في الساحل” الصادر سنة 1859 واقعة مقتل امرأة بعد معاناتها من انعكاسات اعتداء تعرضت له من رجل كانت تجمعها به علاقة، وقررت الانفصال عنه، راحت تحضر إحدى عروض الفنتازيا بمفردها ما أثار جنونه وهو أحد الفرسان المستعرضين لمهاراته، لتصبح بذلك أول بطلة نص جزائرية ثائرة بحسب آسيا جبار التي انطلقت من قصتها في إحدى رواياتها.
بين القصة الحقيقية التي خلدها فرومونتان وقصص نيرة ومثيلاتها في الفضاء العربي، أزيد من قرن من الوجود لم تتغير فيه القواعد بالنسبة للنسوة في هذا الجزء من العالم، في الوقت الذي يمكن تتبع التقدم الذي أحرزته مثيلاتهن في الغرب من خلال الأدب دائماً، ويكفي لذلك الاطلاع على إحدى روايات السيرة التي كتبتها النسوية والفيلسوفة الفرنسية سيمون دوبوفوار وعنوانها “المتلازمتان” صدرت من سنتين (2020)، كتبت توطئتها ابنة الفيلسوفة بالتبني، وأستاذة الفلسفة بالجامعة سيلفي لوبون دوبوفوار.
تحكي الرواية قصة الصداقة الوطيدة التي ربطت سيمون (أو سيلفيا في الرواية) بـ اليزابيث، زازا (أو أندريه في الرواية) صديقة سيمون منذ سن العشر سنوات وحتى وفاتها بعمر الـ 22 سنة، علاقة حب أو صداقة، يصعب تحديد طبيعتها على وجه الدقة في زمن لم يكن فيه الإفصاح عن الميول الجنسية خصوصاً لدى النساء أمراً دارجاً، إضافة لكون الكاتبة قد أخفت نصها ولم يعرف طريقه للقراء، هو الذي كتب بعد رائعة “الجنس الآخر” التي صدرت سنة 1949، حبيس الأدراج بقي هذا النص بإيعاز من شريكها الفيلسوف جون بول سارتر حسبما يقال.
ورد ذكر زازا في أربع من كتب سيمون دوبوفوار التي نشرت حين لا تزال الكاتبة على قيد الحياة، هي التي خطت سيرتها في كتب كثيرة، لكن المميز في رواية “المتلازمتين” أنها تخبرنا عن الكثير من مظاهر حياة النساء الفرنسيات في النصف الأول من القرن العشرين، فزازا الفتاة المطيعة، والتي تربطها بوالدتها علاقة تكاد تكون مرضية تضطر في كثير من الأحيان لانتظار شهور طويلة قبل أن تراسل أعز صديقاتها سيمون، يصعب عليها دعوتها إلى البيت لأن والدتها كانت ترى فيها مثالا يمكن أن يقود ابنتها لتقع في شراك “الشرير” هي الفتاة المسيحية المؤمنة والطائعة، تفعل كل ما في وسعها لتفسد علاقتها بشاب تحبه لأن أمه يهودية، تقترح إرسال ابنتها إلى إنكلترا لسنتين حتى لا تلتقي فيها حبيبها الذي يدخل تماماً (أخيراً) القالب الذي وضعته والدتها، لأنه يتعذر عليه خطبتها في الفترة تلك.
تفعل أمها المؤمنة كل ما في وسعها لتفرقها عن سيمون التي كانت تدرس بالجامعة وتعمل، معتمدة على نفسها، في حين تتقن ابنتها ذات الذكاء الخارق بحسب تعبير سيمون حياة الفرنسيات سليلات العوائل البرجوازية.
إذا ما أخذنا الأدب والسير تحديدا كمادة للتحليل الأنثروبولوجي سنتوقف أمام الجمود الذي يشل الحياة الاجتماعية في العالم العربي، على الرغم من مظاهر التمدن المحيطة، فبطلة سيرة أوجين فرومونتان لم تشبه في شيء نيرة أشرف التي اغتيلت بدم بارد أمام جامعتها (يا لرمزية الأمر)، لكنها لقيت حتفها مثلها على يد شخص يدعي حبها، في حين لا مجال للمقارنة بين زازا وسيمون دوبوفوار التي ستتسبب كتاباتها في إحدى أهم الثورات الثقافية في العالم في مايو/أيار 1968 ومازال حاضراً في الأذهان بكامل ألقه، بل يعتبر حدثاً مفصلياً بأهمية “الثورة الاشتراكية” ولحظة زمنية فارقة في تاريخ البلاد التي سيطالب شبابها بحريات أوسع، وتطالب نسوتها بحقوقهن في امتلاك أجسادهن بالإجهاض وغيره، هن اللواتي حرقن حمالات صدورهن كشكل من أشكال الثورة على نظام لم يعد يتماشى مع طموحاتهن.
يتشدق المؤرخون في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالثورات التي قام بها الشعوب، ضد الاستعمار، والديكتاتوريات، لكن الغريب ألا ثورة منها آتت أكلها كله، فلا زال احترام الإنسان منقوصاً وكرامة النسوة تقدم قرباناً على مذابح حفظ السلم الاجتماعي ، ولا يزال التدين في العالم العربي يحدثنا يومياً عن النساء ” العورات ” وسط غياب ثورة ” وعي مجتمعية ” وثقافية طال انتظارها في الأفق.